سوفَ نبحثُ في الجُّزءِ الأوَّل من هذه السلسلة نشأةِ المسيحيَّةِ وولادتِها، جوهرهَا، إنتشارهَا، وكيفَ استطاعتْ توطيدَ دعائِمِهَا في ظلِّ الأوضاع السياسيَّةِ التي كانتْ تحتكمُ إليها آنذاك الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، إضافة إلى رُدودِ أفعال الأخيرَةِ تجاهَ العقيدةِ المسيحيَّةِ الجَّديدَة.

أصبحتِ العقيدة الدينيَّة التي تلعَبُ دوراً هاماًّ في الحياةِ الإجتماعيَّةِ للشُّعوب منذ بدايةِ التكوين وحتى وقتِنا الحاضِر مرتكزاً أساسياًّ تربطه بهَا وشائجٌ روحانيَّة قويَّة، تختلفُ بإختلافِ الفردِ والمجتمعاتِ والشُّعوب.

والبشرُ أيضاً بالرَّغم من اعتناقِهم لدين واحِدٍ، فإنَّ كلَّ فردٍ منهُم يفسرُ إيمانه قياساً معَ روحِهِ وذاتِهِ وبالتجاوُبِ معَ اتجاهاتِهِ ومعارفِهِ في الحياة. يقول «داؤود حُمه» “حتى أنَّ اثنيْن يَدينونَ بنفس الدين، لا يستطيعان الإتفاقَ على فِكر واحد، أو الثماثلَ في حَمْل المشاعرَ الرُّوحيَّةِ نفسِها”. لذا نشأتْ أديانٌ مختلفة منذ قديم الزَّمان ولغايةِ الآن، وظهرتْ بينها مذاهبٌ وألوانٌ شتى.

إنَّ الشَّرقَ الأوسَط خاصَّة بلادُ الرَّافدين غدَتْ نتيجة الدياناتِ والمذاهبِ المتدفقةِ منها، مصدراً للأديان والمذاهبِ الأولى بَدْءاً باليهوديَّةِ مُروراً بالمسيحيَّةِ وانتهاءً بالإسلام واليَزيديَّةِ والدياناتِ الأخرَى، حيثُ انطلقتْ أكثرُهَا منْ هذهِ المِنطقة أو ارتكزتْ عليها في شحذِ قواها وانتشارهَا في الأرض.

كما هوَ معروفٌ، فقدْ ظهرتِ المسيحيَّة أوَّلاً في أورَشليم (مدينةِ القدْس حالياًّ) وجوارهَا. في الوقتِ الذي بدأ السيدُ المسيحُ نشرَ تعاليمِهِ السَّامية، كانتْ اسرائيل وفلِسطينُ ضمناً، إضافة إلى أجزاءَ كبيرةٍ منَ الشَّرق الأوسَط تقعُ تحتَ النفوذِ الرُّوماني. وكانتْ امبراطوريَّة روما آنذاك تقومُ على قوانينَ وأنظمةِ الإستعبادِ والإستبداد، لكنَّ المفاهيمَ الجَّديدة التي كانَ يطرحُهَا السيد المسيح في تعاليمِهِ كانتْ رافضة تماماً لتلكَ الأنظمة ولمْ تكنْ لِتخصصَ لهَا مكاناً البتة.

إنَّ امبراطوريَّة روما التي اتسعتْ وازدهرَتْ في الخمسينيَّاتِ قبلَ ميلادِ المسيح كإمبراطوريَّةٍ مؤسَّسَةٍ على نظام العبيد، كانتْ تتسلَّط وتحكمُ على جزءٍ كبير منْ بلادِ الرَّافدَين. تلكَ الإمبراطوريَّة التي امتدَّتْ حتى آسيا الصُّغرَى، كانتْ تجعلُ منْ سكَّان هذا الإقليم عبيداً لها على الرَّغم منْ استيلائِها واستئثارهَا بكلِّ الثرَواتِ والمواردِ الطَّبيعيَّةِ له. لكنَّ الشُّعُوبَ التي كانتْ تعاني تحتَ وطأةِ الظُّلم والقهر والإستعباد، وجدتْ في انبثاق المسيحيَّةِ وما حملته منْ عقيدَةٍ جديدَة ميناءً لهَا للخلاص منْ مختلفِ أنواع الشُّرور والطُّغيان. ومعَ أنَّ المسيحيَّة لمْ تكنْ تمثلُ معَ نشأتِها حركة سياسيَّة، إلاَّ أنها كانتْ تنادي بنظام جديدٍ خلافَ النظام المتبَع آنذاك. لذا فقدْ كانَ حكَّامُ اليهودِ الذينَ يمانعونَ انتشارَ المَسيحيَّةِ في القدْس وجوارهَا، يلجأون إلى خيار القوَّةِ السياسيَّةِ واستخدام العمَل العسكري في روما لمجابهةِ الذينَ يعتنقونَ المَسيحيَّة والحيلولةِ دونَ توفير وسائلَ وفرَص العيش لهُم. ممَّا أضعفَ من ازدهار المَسيحيَّةِ في التخوم اليهوديَّة، بحيث عمَدوا إلى تقويضِها وتشتيتِ المسيحيينَ في بعض الأماكنَ منَ القدس وجوارها، في حين توطَّدتْ دعائمُهَا وانتشرتْ في بعض الأماكنَ الأخرَى بشكل عَجيب.

– يعودُ أحدُ أكبرَ الأسبابِ في قبول وانتشار المَسيحيَّةِ واتساعِهَا في الشَّرق الأوسَط إلى التهميش والظُّلم والتعسُّفِ والإستبدادِ الذي كانَ يمارسه المستعمرُ الرُّوماني بحقِّ كلِّ شرائح المجتمع في تلكَ الحِقبَةِ منَ الزَّمَن. ويعودُ السَّببُ الآخر إلى التفاوُتِ الطَّبقي المستشري في المجتمَع اليهودي، حيثُ كانتْ هناكَ شريحَة تمتلكُ الأموالَ الكثيرَة والأراضيَ التي تُدارُ بمَعرفةِ حاخاماتِ اليهود. وكانتْ تسرفُ في حياةِ الترفِ والفحشاء، وتواجه مضايقاتٍ اجتماعيَّة ومشاكلَ اقتصاديَّة، ناهيكَ عن العلاقاتِ السَّائدة بينَ كهنةِ اليهودِ وحُكَّام روما والتي كانتْ تُجحِفُ بحقِّ البسطاءِ والمساكينَ كالقرويين والعبيدِ وصيَّادي الأسمَاك.

– إنَّ الشَّعبَ الذي لم يكنْ له لا حولَ ولا قوَّة، وقدْ ضاقتْ بهِ الأرضُ ذرْعاً بما يحمِله منْ همُوم وآلام نتيجَة ممارساتِ الذلِّ والطُّغيان، وجَدَ ضالَّتَه في قوَّةِ المَسيح، فآمنَ بهِ وصارَ يتبَعُه. وتجدُرُ الإشارة إلى أنَّ التلاميذ والمؤمنينَ الأوائلَ بالمسيح كانوا إمَّا منْ سكَّان القرَى أي قرويُّون وإمَّا عبيداً أو صيَّادينَ للأسمَاك أو منْ طبقةِ الأسيادِ الصغار، إذ لمْ يكنْ بينَ هؤلاءِ مَن يتبَع الطَّبَقة الحاكمَة.

‫شاهد أيضًا‬

بعد جهود حثيثة.. كتاب تاريخ السريان يبصر النور

كتابُ “تاريخِ السريان”، الذي كُتِبَ وبعدَ جهودٍ كبيرةٍ باللغاتِ العربيةِ والأل…