سلسلة تاريخ كنائس بلاد مابين النهرين
اليوم نُنهي ماتبقى من الجزء الأول من سلسلة تاريخ كنائس بلاد مابين النهرين حول نشأة المسيحية واليوم سوف نتطرق إلى دخول وتوغل المسيحية في بلاد مابين النهرين.
“دخول وتوغُّل المسيحيَّة في بلادِ ما بينَ النهريْن”
– لقدْ جاءَتِ المسيحيَّة إلى جَميع الأمَم حاملة معَها ميراثاً سماوياًّ ووُعُوداً روحيَّة أزليَّة، بحيثُ أتاحَتِ المجالَ أمامَ كلِّ شعوبِ الأرض كي تعيَ وتدركَ تماماً حقيقة جوهَرهَا الرُّوحي بما يَنسجمُ ويتواءَمُ معَ ثقافةِ وحضارَةِ أيِّ شعبٍ منْ تلكَ الشُّعوب. وفي الأزمنةِ الأولى التي انتشرتْ فيها المسيحيَّة، لمْ تُدوَّنْ أيَّة كتاباتٍ أو مَخطوطات، بلْ كانتْ ترتكزُ في نقل البشارَةِ وكلمةِ الخلاص على الكرازةِ والوَعْظِ المتواتر منْ جيل لآخر، لذا حذا المبشرونَ وتلاميذ السيدِ المسيح حذوَ معلمِهم واقتدوا بسلوكِهِ وحياتِهِ على الأرض، ممَّا حتمَ ليسَ فقط على اليهود، بل على أيٍّ منَ الشُّعوبِ أنْ يشعرَ بأنَّ المسيحَ يمكثُ إلى جوارهِ ويَحسَبُه واحداً منْ أفرادِهِ، لهذا نجدُ المسيحَ في أفريقيَّة مصوَّراً بهيئةِ إنسَان أسوَد، وفي آسيا ذو عينان مَسحوبتان، بينما في أميركا يُصوَّرُ بهيئةِ رجل خليطٍ وهجين، أمَّ في أوروبَّا يتمُّ تخيُّله كرجل بشعر أشقر وعينيْن زرقاوَتيْن. وبإختصار يمكننا القولَ إنَّ المسيحَ تكونُ هيئتُه في كلِّ مَكان كشَبَهِ المؤمنينَ بهِ في ذلكَ المَكان.
– وقدْ كانَ منَ الطَّبيعي في القرون الأولى منْ مَهدِ المسيحيَّةِ أنْ تُنشَرَ أوَّلاً في الأمكِنةِ الجُّغرافيَّةِ القريبةِ منْ مدينةِ القدْس، لذا فقدْ صارتْ بلادُ ما بينَ النهريْن أولى الأماكنَ التي انتشرتْ فيها المسيحيَّة.
– بعدَ أنْ تألَّمَ السيدُ المسيح وعُلقَ على عودِ الصَّليب، وحينَ لمْ يَعُدْ بمقدور تلاميذِهِ الوعظ في أورَشليم، جالَ (مار توما الرَّسول) وأخوهُ (مار آداي) وأتباعُهُم مبشرينَ في أوقاتٍ مختلفةٍ في بلادِ ما بينَ النهريْن.
– يقولُ مار إغناطيُّوس أفرام الأوَّل برصوم وميخائيل الكبير والمُطران يوحنا دَولباني “بعدَ مدينةِ الرُّها (أورفا اليوم)، قصدَ مار آداي نواحيَ (دياربكر، نصيبين، بيتَ زبدي وأربيل)، واعظاً فيهَا بالإنجيل المقدَّس وقامَ برَسَامةِ أسقفٍ لمدينةِ أربيل بإسم (فقيدو)، ومنْ ثمَّ عادَ مُجَدَّداً إلى الرُّهَا، حيثُ تنيَّحَ وتسلَّمَ منْ بعدِهِ (آجاي)”. لقدْ دخلتِ المسيحيَّة إلى جَنوبَ وشرقَ بلادِ ما بينَ النهريْن متأخراً قياساً معَ توغلِها في المناطقَ والأطرافِ الأخرَى. يقولُ (تريمينغهام) في كتابهِ عقبَ أعمال التبشير وانتشار المسيحيَّة “سنة مئةٍ وخمسينَ بعدَ الميلاد، انتشرتِ المسيحيَّة في هذهِ الأقاليم. وبقدَر ما شكَّلتْ فيها الكرازة والوعظ مجموعاتٍ مسيحيَّةٍ، إلاَّ أنها بقيَتْ متفرقة دونما تنظيم. لقدْ جاءَ تأسيسُ المسيحيَّة وتوطيدُ دعائِمِها في بلادِ ما بينَ النهريْن بعدَ أنْ تأسَّسَتِ كنيسَة أنطاكيَّة ونشطتْ في هذهِ المِنطقة.
– وبالإضافةِ إلى هذا، كانتْ بلادُ ما بينَ النهريْن أولى الأقاليم التي اعتنقتِ المسيحيَّة بعدَ أورَشليم وما جاوَرَها. وكانتْ تضمُّ استناداً إلى مصادرَ متعددَة عِشرينَ منَ الأبرشيَّاتِ والأسقفيَّات خلالَ القرنيْن الأوَّل والثاني للمسيحيَّة. وكانتْ (بيت زبَدي، هيلفان، سينجاب، وبيت كاتار) تمثلُ أهمَّ تلكَ الأبرشيَّاتِ والرَّئيسَة، حسَبَ قول المثلَّثِ الرَّحمَةِ البطريرك (مار إغناطيُّوس يعقوب الثالث).
– ويعودُ أحَدُ أهمِّ الأسبابِ الأخرَى في سرعةِ إنتشار المسيحيَّةِ في بلادِ ما بينَ النهريْن إلى أنَّ العاداتِ والتقاليدَ والطُّقوسَ التي مارسَتها المسيحيَّة، كانتْ أساساً تمارسهَا الدياناتُ القديمة في المِنطقة. ولهذا السَّببِ يقول (Arnold Toynbee) “لقدْ وُلدَتِ المسيحيَّة وانبثقتْ عنْ حضارةِ سوريا وبلادِ ما بينَ النهريْن واليونان”.
– وكما هوَ معروفٌ، فقدْ كانَ القادة السياسيُّونَ للدَّولةِ في ظلِّ الأديان القديمةِ التي اعتنقها آباؤنا وأجدادُنا (السُّومريُّون والأكاديُّون والبابليُّون والآشوريُّونَ والآراميُّون) هم نفسُهُم قادة الدين الذينَ ينبغي الإحتكامُ لقراراتِهم والإذعانُ لسلطتِهم. كما كانتْ طاعتُهُم تحمِلُ أبعاداً ومعانيَ روحيَّةٍ أخرَى، بحيثُ تُعتبَرُ بمثابةِ صلاةٍ للآلهة. واستمرَّتِ الأحوالُ على هذهِ الوتيرةِ حتى بزوغ فجرَ المسيحيَّةِ وانتشارهَا في بلادِ ما بينَ النهريْن، إذ إنَّ الطَّاعة التي كانتْ تُقدِّمها مختلفُ طبقاتِ وشرائحَ وفئاتِ الشَّعبِ لرؤساءِ الدين، لمْ تعُدْ تُقدَّمُ للسَّاسَةِ وقادةِ الجَّيش.
– لقدْ أدَّى إحتلالُ الإمبراطوريَّةِ الرُّومانيَّة لإقليم بلادِ ما بينَ النهريْن وسيطرَتُهَا على مُعظم أرجائِهِ، إلى توثيق عُرَى الوَحدةِ والتضامن بينَ المسيحيينَ الذينَ كانوا حينهَا مقسَّمينَ، مجزَّئين وإلى إنصهارهِم في بَوتقةِ الإيمان المَسيحيِّ الواحِد. ونتيجَة لهذا التقارُب، فقدِ اندمَجَ تاريخُ السُّريان المسيحيينَ المتواجدينَ في شمال الإقليم معَ تاريخ كنيسةِ أنطاكيَّة التي كانتْ تحكمُ آنذاك هذا الجُّزءَ منْ بلادِ ما بينَ النهريْن، وذلكَ لأنَّ مسيحيِّي شماليَ الإقليم كانوا خاضعينَ لسلطةِ وإدارةِ وخدمَةِ هذهِ الكنيسَة.
يعقوب قريو: الصحفي والمفكر السرياني الذي حمل شعلة القومية والثقافة
مقدمة يعقوب قريو، ابن جوزيف السرياني، ليس مجرد اسم في سجلات الصحافة في سوريا والشرق الأوسط…