17/02/2020

تاريخ كنائس بلاد مابين النهرين (الجزء الثاني)

نقدمُ إليكمُ الآن الجُّزءَ الثاني منْ برنامَج (تاريخ كنائس بلادِ ما بينَ النهريْن). لقدْ تحدَّثنا في الجزء الأول عنْ ظهور المسيحيَّةِ وانبثاقِها بَدءاً منْ أورَشليم- القدس، ثمَّ انتقالهَا إلى مدينةِ الرُّها (أورفا حالياًّ) بهمَّةِ الرَّسول (مار آداي)، لتنتشرَ بعدئذٍ ويتسعَ مداها في معظم أرجاءِ بلادِ ما بينَ النهريْن، وكيفَ أنَّ رسلَ وتلاميذ الرَّبِّ يسوعَ المسيح حملوا فوقَ صدورهِم راية الإيمان الجَّديد وشرعوا يبشرونَ كلَّ الأمَم والشُّعُوب الخاضعَة لنير إحتلال الإمبراطوريَّةِ الرُّومانيَّة.

سوفَ نتناولُ اليوم في الجُّزءِ الثاني منْ (تاريخ كنائس بلادِ ما بينَ النهريْن) الدَّورَ الرَّئيسيَّ والهام الذي لعبته مدينة أنطاكيَّة الواقعة داخلَ الحدودِ التركيَّة في تاريخ المسيحيَّة.
تقعُ مدينة أنطاكيَّة التاريخيَّة قبالة أورشليم على الضفةِ اليُسرى لنهر العاصي على بعدِ ثلاثينَ كيلومتراً منْ شاطىءِ البحر الأبيض المتوسط، تتبَعُ لواءَ الإسكندرون (هاتاي) في تركيَّا منذ سنة ألفٍ وتسعِمِئةٍ وتسع وثلاثين بعدَ أنْ كانتْ سوريَّة. وقدْ أضحَتْ أيَّامَ الرُّومان مركزاً بحرياًّ تجارياًّ وثقافياًّ هاماًّ، لذلكَ فإنَّ أيَّ مستجدَّاتٍ أو أحدَاثٍ مَا تطرأ في المِنطقة، كانتِ الآذانُ تتناقلهَا للتوِّ في المدينة. كذلكَ الأمرُ بالنسبةِ للمسيحيَّةِ، فقدْ كانَ منَ السَّهل جداًّ أنْ يعلمَ سكَّانُ أنطاكيَّة بنبأِ ظهور ديانةٍ جديدةٍ بسببِ التجارةِ المتبادَلةِ بينهَا وبينَ أورشليمَ آنذاك.
– وبسببِ الغنى الثقافي والحضاري التي كانتْ تتمتعُ بهِ مدينة أنطاكيَّة، دُعيَتْ في وقتٍ منَ الأوقات بإسم ( Libera Civitas) أي المدينة الحُرَّة، وبقيَ هذا الَّلقبُ يلازمُهَا حتى القرْن الثالثِ للميلاد. وفي زمن حكم الأباطرة الرُّومان للشَّرق الأوسَط، كانتْ أنطاكيَّة تعَدُّ ثالثَ أكبرَ وأغنى وأهمَّ مدينة في العالم بعدَ مدينتي روما حيثُ كرسيُّ الإمبراطور، والإسكندريَّةِ في مِصر. وغدَتْ أيضاً إحدَى القِلاع الحَصينةِ للمسيحيَّة بعدَ أنْ قصدَها الرُّسُلُ الأوائل للسيدِ المَسيح، فضلاً عنْ أنَّ أوَّلَ كنيسةٍ في تاريخ المسيحيَّةِ تأسَّسَتْ في أنطاكيَّة منْ قبَل (قِسطنطينَ الكبير) ملِكِ رومَا.
– لقدْ تعاظمَتْ مكانة أنطاكيَّة معَ إزدهار المسيحيَّةِ وإتساعِها منذ السَّنواتِ الأولى منْ فجر المسيحيَّة، وتمايزتْ مكانتُهَا الخاصَّة كنسياًّ في التاريخ المَسيحي بالرَّغم منْ كلِّ المحاولاتِ الأولى لعزلِهَا وإبقائِها منفردَة نظراً لكونِها تمثلُ المركزَ الذي استقطبَ إليهِ المسيحيَّة في إنطلاقتِها الأولى منْ ناحيةٍ، وبسببِ هيكلِها التنظيمي المؤسَّس على قاعدةٍ ديناميكيَّةٍ مَتينةٍ منْ رعايا المؤمنين منْ ناحيةٍ أخرَى، ما مكَّنها من إعتلاءِ صفةِ الرِّيادَة في تسلُّم المبادرَة المسيحيَّة.
– وفي الواقع، مَن يضطَّلِعُ في التاريخ الكنسي، يجدُ أنَّ كنيسَة أنطاكيَّة كانتْ قدْ صارتْ رفيقة الدَّربِ الحَميمَةِ بالنسبَةِ لكنيستي الإسكندريَّةِ ورومَا، ولكنْ نتيجة الصراعاتِ والمشاحناتِ الحاصلة بينَ المذاهبِ المسيحيَّة بقيَتْ متخلفة وفقدَتْ مكانتَها تلك.
– على أثر رَجم واستشهادِ القديس (مار استفانوس الرَّسول) في أورَشليم على يدَي رؤساءِ كهنةِ اليهود سنة أربَع وثلاثينَ للميلاد، تشتَّتَ كلُّ المسيحيينَ في المدينة ما عدا الرُّسُل، وجاءَ أغلبُهُم إلى أنطاكيَّة. وفي أوقاتٍ محدَّدة، كانَ رسلُ وأتباعُ المسيح ينتقلونَ منْ مكان لآخرَ مبشرينَ اليهودَ فقط، ولكنْ بتوجيهاتِ مار سمعان بطرُس وغيرهِ منَ الرُّسُل أوعِزَ بالتبشير أيضاً في المدُن والمناطقَ الغير اليهوديَّةِ كالسَّامرَةِ مثلاً.
– حينما زادتِ الإستجابة للإيمان المَسيحي أكثرَ يوماً بعدَ يوم في أنطاكيَّة وجوارهَا، أرسلَ (سمعان بطرُس) أحدَ الرُّسُل المَدعو (برنابا) إلى نواحيَ هذا الإقليم للتعامُل معَ الوضع وإدارةِ أمور وأحوال المؤمنينَ هناك. وفي ذهابهِ إلى أنطاكيَّة، يَصطحبُ معَه برنابا بولصَ الرَّسول الذي كانَ متواجداً في تلكَ الأثناء في مدينةِ (طرسوس)، حيثُ يَستطلعُ برنابا الأجواءَ هناك، ويُخبرُ (سمعانَ بطرُس) بالتطوُّراتِ الحاصلة والأوضاع المستتِبَّةِ في الإقليم. بعدَ ذلكَ يجيءُ سمعانُ بطرُس ورفاقه سنة سَبْع وثلاثينَ إلى أنطاكيَّة، فيَضعونَ الأنظمة الإداريَّة ويَصوغونَ القوانينَ الرَّعويَّة للمؤمنين، ويقومونَ برسَامةِ مدبرينَ ومسؤولين منْ أجل تكوين البنى التحتيَّةِ لقواعدِ الإيمان المَسيحي تمهيداً لتأسيس الكنيسَة. ولمَّا زحَفَ القائدُ الرُّوماني (تيطس) ابنُ الإمبراطور (فسباسيان) بإتجاهِ العاصمةِ أورَشليم، وقامَ بحصارهَا وتدميرهَا بما في ذلكَ هيكلُ سليمانَ الثاني الذي تحوَّل إلى أنقاض سنة سَبعينَ ميلاديَّة، يفرُّ مَنْ تبقى منْ مسيحيِّي المدينةِ ويَجيئونَ عندَ أخوتِهم في أنطاكيَّة التي بدأتْ تتوطَّدُ مكانتُهَا ويتعزَّزُ شأنُ كرسيِّهَا الرَّسولي المقدَّس اليومَ تلوَ الآخر.
بالفعل إنَّ بطريركيَّة أنطاكيَّة مُحقة بقولِهَا إنها أوَّلُ أقدَمَ كنيسةٍ مسيحيَّةٍ مقدَّسَةٍ تأسَّسَتْ في العالم بأسرهِ، ذلكَ لأنَّ عبَّادَ الأصنام والأوثان واليونانيينَ المتطرفين وصلتْ إليهم بشارة الإيمان المسيحيِّ الجَّديد هنا في أنطاكيَّة. وكمَا جاءَ في كتابِ العهدِ الجَّديد في سفر أعمَال الرُّسُل- الإصحاح الحاديَ عشَر والثانيَ عشَر- الآيةِ السَّادسَةِ والعشرين- إنَّ التلاميذ دعيوا أوَّلَ مرَّةٍ في أنطاكيَّة بالمَسيحيين. هذا بالإضافةِ إلى أنَّ الكنيسَة التي تأسَّسَتْ بإسم (مار بطرُس) بينَ عامَي ستةٍ وثلاثين وسَبعَةٍ وثلاثين في أنطاكيَّة، كانتْ هيَ الكنيسَة الأولى أصلاً بعدَ العِليَّةِ التي أقيمَ فيهَا العشاءُ السرِّي (الإفخارستيَّا)، حيثُ المكانُ الذي كانَ يمكثُ فيهِ التلاميذ ويجتمعونَ بعيداً عن الأنظار والتي تحوَّلتْ فيمَا بعد إلى كنيسَة، ناهيكَ عنْ أنَّ مار بطرُس الذي وضعَ يدَه على (مار أفدِيوس) ويقومُ بتعيينِهِ وكيلاً في أنطاكيَّة بالنيابةِ عنه، والذي يُعتبَرُ أوَّلَ بطريركٍ أنطاكيٍّ تتُمُّ رسامتُه بعدَ (مار سمعَان بطرُس) هامَةِ الرُّسُل، يتولَّى رعاية هذا الكرسيِّ الرَّسولي منذ سنة ثلاثٍ وثلاثين ولغايةِ أربَعينَ ميلاديَّة. وقدْ أكَّدَ صحَّة تلكَ الوقائع المؤرخُ التاريخي القديس (أوسابيوس) الذي كتبَ عنْ تاريخ الكنيسةِ المسيحيَّة.
– إنَّ نموذجَ النظام الفلسَفي الذي تقمَّصَه الرُّسُلُ القديسون منْ شخصيَّةِ السيدِ المَسيح وتعاليمِهِ كانَ قدْ كرِّسَ في كلِّ مكان. ومنْ جهتِهم، كانَ التلاميذ يقومونَ برسامةِ راع واحدٍ في أيِّ مكان يحتضنُ جماعَة منَ المؤمنين. ونتيجة لذلكَ، فإنَّ المَجموعة المسيحيَّة الصَّغيرة التي تشكَّلتْ في أنطاكيَّة أخذ حجمُهَا يَتوسَّعُ شيئاً فشيئاً حتى طالَ تأثيرُهَا جميعَ أطرافِ الشَّرق الأوسَط بسببِ الأهميَّةِ الكبرَى التي كانتْ تتمتعُ بها المدينة والمكانة العظمَى التي احتلَّتهَا حينذاك. وكانتْ كنيسة أنطاكيَّة المؤسَّسة منْ قبَل الرُّسُل تواصلُ نشاطهَا ونشرَ رسالتِهَا السَّاميَةِ على الرَّغم منْ طاغوتِ السُّلطةِ الحاكمَةِ ونفوذِهَا القويِّ في ذلكَ الإقليم والتي كانتْ تشكلُ مِتراساً عَنيداً للحَدِّ من اتساع رُقعةِ المَسيحيَّة. لقدْ وجدَتْ إمبراطوريَّة رومَا نفسَهَا عاجزة عنْ مصارعةِ هذهِ القوَّةِ المنظَّمةِ والهائلةِ التي ظهرَتْ للوجود كأساس للتلاحُم والتعاضُدِ المنسَّق بينَ كنيسةِ أنطاكيَّة والكنائس الأخرَى، لذا فإنها ارتأتِ التخليَ عنْ خيار الحربِ وتركَ المسيحيَّةِ تتنامَى وسَط أجواءٍ حرَّةٍ طليقة لتخضعَ بعدَئِذٍ لِرقابتِهَا وسيطرتِهَا.

يُتبع………..

‫شاهد أيضًا‬

يعقوب قريو: الصحفي والمفكر السرياني الذي حمل شعلة القومية والثقافة

مقدمة يعقوب قريو، ابن جوزيف السرياني، ليس مجرد اسم في سجلات الصحافة في سوريا والشرق الأوسط…