السريان بين التجذر في الأرض والهجرة
لقد عُرفت أرض ما بين النهرين بأنها الأكثر خصوبة في إنتاج المعتقدات والأساطير والفن والآداب والثقافة ومهدت للغة السريانية والثقافة السريانية أن تعتلي صرح هذا البعد الثقافي واللغوي والإنساني على امتداد جغرافية بيث نهرين وسورية والعراق، وكان للمثقفين السريان دورٌ محوريٌ ناشط عبر مراحل طويلة من تاريخنا الثقافي.
ولن أكون مبالغاً إذا قلت أن القرون الثلاثين الماضية شكلت ما يسمى ( بالدورة الثقافية الكبرى ) انطلاقاً من الثقافة السريانية والثقافة الفارسية وثقافة اليونان القديمة إلى الثقافة العربية في عصر ازدهارها في العهد الإسلامي الأول إلى ثقافة النهضة الأوربية إبان الثورة الصناعية .
ظل المثقفون السريان حلقة الوصل بين تلك الحضارات وشكلوا جسراً ما بين حضارة اليونان الآفلة التي كانت تربطهم بها وشائج الدين المسيحي والحضارة العربية الصاعدة التي تربطهم بها صلات القرابة العرقية والتاريخية واللغوية وما احتفظت به الكنيسة السريانية من أدلة قطعت الطريق على الدعوة الصهيونية في حقها المزعوم في هذه الأرض .
إن هذا الدور للمثقفين السريان بدأ بالتراجع ومهدد بالضمور والتلاشي من خلال الانتقال الى أوساط المهجر في أوروبا الغربية بوتائر سريعة مؤسفة ويفقد الشرق بذلك قلادته الثمينة المتمثلة باللغة السريانية وكما قالها المطران بولس بهنام : (إنني أخشى على هذه القلادة من أيادٍ تحاول أن تطالها من وراء الظلام ) .
لقد تفاعلت الثقافة السريانية بالثقافة العربية وظلت محكومة بنزعتي التقارب والاختلاف التقارب من حيث الجذر والتاريخ والحوض الثقافي الواحد والاختلاف من حيث تبني الثقافة العربية للدين الإسلامي وظلت الثقافة السريانية متبنية للدين المسيحي وبدأ الصراع الصامت غير الدموي في أكثر الأحيان يأخذ طريقه لصالح اللغة العربية ولم تمر عدة قرون حتى تحول القسم الأعظم من السريان إلى تبني الدين الإسلامي والثقافة العربية على الرغم من أن العديد من المحتلين لهذه الأرض مثل الفرس واليونان والرومان لم يتمكنوا من التأثير الكبير ثقافياً ولغوياً على السريان وظلت الثقافة السريانية هي السائدة إلى حين قدوم الفتوحات العربية الإسلامية الناهضة من المنطقة ذاتها وتفعل مفاعيلها في انحسار اللغة السريانية فلا غرابة أن نجد القسم الأعظم من رواد النهضة العربية الحديثة كانوا من السريان المستعربين وتماهوا بالثقافة الوطنية العربية بحثاً عن مقومات الدولة المدنية مع العرب المسلمين لكن يبدو هي الثانية وصلت إلى طريق مسدود من خلال استمرار الصراع المسلح في سوريا والعراق وتعرض مجموعات مسلحة تدعي الإسلام لرموز الثقافة السريانية المتمثلة بالكنائس إلى جانب تهجير قسري غير مسبوق في تاريخ المنطقة لأكثر المكونات أصالة في تاريخ المنطقة ولم تصدر من أي مؤسسة دينية إسلامية عربية أو ثقافية إدانة لمثل هذه النزعات العنصرية الهدامة لجزء مهم ومتأصل لتراث وثقافة المنطقة .
إن نضوج الوعي السرياني المعاصر ترافق مع نزعات العودة إلى التراث التاريخي الضخم للثقافة السريانية بهدف إحياء خصوصيتها وهذا يستحق التأمل والدراسة كما كان للثقافة الوطنية في سورية فرصة تاريخية للتطور بقبول تعدد الألسنة كما كان في الماضي في عصر الازدهار الثقافي وإعطائها بعداً إنسانياً وأخلاقياً حيث كان للسريان دورٌ محوري وهام في تطوير الثقافة والعلوم الأخرى لكن للأسف ظلت النزعات الهدامة هي الفاعلة في صهر الثقافات الأخرى غير العربية وسيدة الموقف في القول الفصل .
إن وعي السريان لا يزال جريحاً منذ الحرب الكونية الأولى ونزيفه لم يتوقف لحظة واحدة حتى اليوم لا بل تزايد بوتيرة صامتة عبر وريد الهجرة للغرب الأوربي إن الضمور الصامت الخفي غير المؤلم بلا حروب ومذابح خلال العقود الماضية ازداد هذا الضمور في كتلة النسج السرياني في مقاطعة الجزيرة والوطن بشكل عام في ظل الصراع المسلح المتواصل وهو الأكثر خطراً ومعاناة .
وإذا انقسم المثقفون السريان إلى صنفين كما قلت وهما صنف الانصهار في العروبة وصنف الأصالة بالعودة إلى الثقافة السريانية فإن هذين الصنفين يتعرضان إلى انشطار جديد تيار الانصهار نحو الثقافة الغربية وتيار الأصالة في الكتابة السريانية ولكن باللغة العربية إضافة إلى التباين بين التيار اللاهوتي والتيار العلماني في البيئة الثقافية السريانية منذ القرن الثاني للميلاد وحتى اليوم شهدت ظاهرة معقدة هي ظاهرة المثقف الراهب والكاهن التي أدت بدورها إلى انقسام حاد بين التيار الديني والتيار العلماني الى جانب هدر الطاقات الوراثية من خلال عدم تناسل الراهب وضياع خيوط التوارث في حياة المثقفين السريان وكانت لهذه الظاهرة عواقب نلمسها اليوم وتتحلى بطرق غير مباشرة إذ أن المثقف لدى أي أمة هو أب للشعب وهذا ما نفتقده اليوم .
كما أن الصدام بين التيار اللاهوتي والعلماني القديم منذ عهد برديصان ومار أفرام السرياني واستمراره حتى وصل إلى مرحلة لم يميز السريان بين ذاتهم القومية وذاتهم الدينية إلا في العصر الحديث وهذا لم يقتصر على السريان فقط حيث كان للعرب عجزٌعن فصل ذاتهم القومية عن ذاتهم الدينية لولا السريان المستعربون الذين حملوا راية العروبة وتغنوا بأمجادها إن التعاون والتوافق بين جميع التيارات السريانية يجب أن يبنى على أسس متينة وفعالة وأول هذه الأسس هي مصلحة الثقافة السريانية والشعب السرياني ووضعها فوق كل الاعتبارات لأن وباء الهجرة إلى الغرب بدأ يشطر ويهدد كل التيارات بدون استثناء ويهدد مستقبل السريان على مساحة الوطن وخاصة الجزيرة .
إن الوعي السرياني المنقسم بين تيارات تختلف في كل شيء هذا الوعي يحاول السير إلى الأمام بينما وجهه وبصره ينظر إلى الخلف نحو الماضي المجيد وأنه أدمن التغني به وهذا لا يخدم المستقبل فالخلاص لا يأتي من الغيب اللاهوتي ولا من الغيب التاريخي بل لابد من إدارة الرأس نحو الأمام والبحث عن العراقيل التي تتعثر بها الأقدام واعتماد سبل واقعية لتعطي الشعب وضوحاً نحو المستقبل إن الشعور والاعتزاز للتجذر بالأرض لازال قائماً لكنه مهدد بالتلاشي بسبب الهجرة المستمرة إلى الغرب الاوربي .
وعلى الرغم من كل هذه التداعيات لا أشك ولا للحظة بوجود جيل من المثقفين كان ولا يزال يسعى إلى العيش في الزمن الحاضر والبحث عن مقومات البقاء هنا لا في الماضي التليد ولا في المستقبل الأوربي.
ترشيح 40 شماساً للرسامة في كنيسة مار توما في السويد
النائب البطريركي لأبرشية السويد للسريان الارثوذوكس المطران “مار ديوسقوروس بنيامين آت…