05/03/2020

سلسلة تاريخ كنائس بلاد مابين النهرين (الجزء الثالث)

نقدمُ لكمُ اليوم الجُّزءَ الثالثَ منْ سِلسِلةِ أجزاءِ (تاريخ كنائس بلادِ مَا بينَ النهريْن). سَنقومُ في هذا الجُّزءِ بإماطةِ اللثام عنْ وجهِ المَجمَع المسكونيِّ الأوَّل المُنعقِدِ في مدينةِ (نيقيَة) بتركيَا (قرية أسنيك حالياًّ) على أثر ظهور بدعةِ نسطور سنة ثلاثِمِئةٍ وخمْس وعشرينَ بعدَ الميلاد، والذي أسفرَتْ نتائجُه عنْ انقسَام شعبنا وإنفصالِهِ إلى تيَّاريْن شرقيٍّ وغربي، علماً بأنَّ هذا المَجمَعَ كانَ قدْ حظيَ بمشاركةٍ كبيرةٍ منْ أساقفةِ كنائس روما وأنطاكيَّة والإسكندريَّة. تعالوا لنطَّلِعَ معاً على أهمِّ ما جرى بينهُم منْ سِجالاتٍ وجدالاتٍ حارَّة، معَ تِبيان القراراتِ المُنبَثقةِ عَنه.

شاركَ في مَجمَع نيقيَة أساقفة أكبرَ ثلاثةِ كراسيَ بطريركيَّةٍ رسوليَّة وهيَ كرسيُّ الكنيسةِ الأنطاكيَّةِ في إقليم الأناضول، وكرسيُّ كنيسَةِ روما عاصمَةِ إيطاليا، وكرسيُّ كنيسَةِ الإسكندريَّةِ عاصمةِ مَصر. وكانَ مجمَعُ نيقيَة أولى المجامع المسكونيَّةِ الذي انعقدَ تحتَ أنظار الإمبراطوريَّةِ الرُّومانيَّة. وقدِ اتُخِذتْ فيهِ قراراتٌ دينيَّة وأخرى تتصلُ بالشُّؤون الإداريَّةِ داخلَ الكنائس.
– وتتُمُّ في هذا المَجمَع محاكمَة بدعَةِ (آريوس)، وتتفقُ كلُّ الكنائس بالإجمَاع على قوانينَ موحَّدَةٍ للإيمان، وتقومُ بجَمْعِهَا وحِفظِهَا داخلَ نصٍّ واحِدٍ بعبارةِ (آبٌ واحِد) والتي يُنطقُ بهَا يومياًّ في الكنائس. ولكنَّ نصَّ قانون الإيمان لمْ يجر الإتفاقُ على صياغةِ جميع فِقراتِهِ في المَجمَع النيقاوي، فقط تمَّ صياغة الفِقراتِ السَّبْع الأولى منْ نصِّهِ القائِل “نؤمنُ بإلهٍ واحد، آبٍ ضابطِ الكل، خالق السَّماءَ والأرض، كلَّ مَا يُرَى ومَا لا يُرَى. وبرَبٍّ واحدٍ يَسوعَ المَسيح، ابنُ الَّلـهِ الوَحيد، المولودُ منَ الآبِ قبلَ كلِّ الدُّهور، إلهٌ منْ إله، نورٌ منْ نور، إلهٌ حقٌّ منْ إلهٍ حَق، مولودٌ غيرُ مَخلوق، مُسَاو للآبِ في الجَّوهَر، الذي بهِ كانَ كلُّ شَيء، الذي منْ أجلِنا نحنُ البَشرُ ومنْ أجل خلاصِنا نزلَ منَ السَّماءِ وتجسَّدَ بالرُّوح القدُس منْ مريمَ العذراء، وصارَ إنساناً وصُلِبَ عَنا على عَهدِ بيلاطسَ البُنطي، تألَّـمَ وماتَ وقبرَ، وقامَ في اليَوم الثالِثِ كمَا جاءَ في الكتبِ، وصعَدَ إلى السَّماءِ وجلسَ عنْ يمين الآب وسَيأتيَ أيضاً بمَجدٍ عَظيم ليَدينَ الأحياءَ والأموَات الذي لا فناءَ لِمُلكِهِ.
– إنَّ هذهِ القوانينَ توضِحُ بأنَّ اللهَ واحِدٌ لا يَقبَلُ الإنقسَام. وقدْ وُضعَتِ الفِقراتُ الخمسَة المتبقيَة منَ النصِّ الكامِل لقانون الإيمان في المَجمَع الثاني الذي التأمَ في مدينةِ (القِسطنطينيَّةِ)- إسطنبول حالياًّ- في العَام ثلاثِمِئةٍ وأحَدَ وثمانينَ ميلاديَّة.
– وفي مَجمَع نيقيَة الذي يُعَدُّ الإجتماعَ العام الأعلى والأوَّل في المسيحيَّة، يتُمُّ توزيعُ الوظائفِ والسُّلطاتِ الرَّعويَّةِ على الكنائس والكراسيَ الرَّسوليَّة، ويتُمُّ أيضاً تعيينُ الإداراتِ والحُدودِ المُختصَّةِ بكراسيَ البطاركة، وترتيبُ درَجاتِ الكهنوتِ في الكنيسةِ المسيحيَّةِ جمْعاء، وتكوينُ الطَّقس الكنسي.
إنَّ الإدارات وكراسي البطاركة وسلطاتِهَا داخل الكنيسة المسيحية قاطبة والطقس الكنسي هكذا اختارتها ادارات الكنائس. اْولا أبرشيَّة روما الايطالية- ثانيا أبرشيَّة الإسكندرية المصرية ثالثاً أبرشيَّة الكنيسةِ الأنطاكية. ويكون لكنيشةِ أورشليمَ- القدْس قيادة الشَّرف مقابل القيصر ما أثارَ الإنتباهَ إلى أن كنيسة روما ستكون في مقدمة الكنائس كلها. لقد كانت الامبراطورية الرومانية متأخرة بالنظر إلى التطورات الموجودة وكانت القسطنطينية التي تدعى اليوم إسطنبول مركزاً سياسياً وعسكرياً في الجهة الشرقية ومركزاً دينياً تابعاً للحكم الروماني. وكانت الإدارات الشرقية تريد الإنفصال من القسم الغربي لأنها لم تكن مُنسَجمَة معَ القرارات التي أتخذت في المجمع من الناحية الإدارية. ومن جهةٍ أخرى اعتُبرَتِ الكنيسة الإيطالية الأولى ورأس الكنائس جميعاً، كما صدرَ حكماً بحَقِّ بدعَةِ أريانيزيم في مجمع نيقيا لأنه ظهرَتْ للقادةِ الرُّوحانيينَ ميولاً نحوَهُ.
ولهذا كانتْ تعقدُ مجامعٌ أخرى من قبل الشرقيين أي البيزنطيينَ التابعينَ إلى إسطنبول، لكنَّ هذهِ المجامع وقراراتِهَا لمْ تكنْ تحظى بالقبُول. ولهذا ظلت القوانين والقرارات التي صدرتْ في مجمع نيقيا سارية المَفعول حتى عام 381. بينما كنيسة روما التي لمْ توافقْ هيَ أيضاً على قراراتِ مَجْمَع نيقيا راحَتْ تُعِدُّ مجمعاً جديداً في إسطنبول عام 381. أمَّا السبب الآخر الذي أدَّى إلى عقد هذا المجمع هو إنكارُ بطريرك القسطنطينية مقدونيوس لألوهيَّةِ الرُّوح القدُس ممَّا أدى الى حرمانه منَ المجمع لِتُضَافَ إلى قانون الإيمان فِقرَة أخرَى تقولُ “ونؤمنُ بالرُّوح القدْس .. الرَّبِّ المُحيي.. المُنبثق مِنَ الآب ومعَ الآبِ والإبن.. يُسجَدُ له ويُمَجَّد الناطقُ بالأنبياء وبكنيسةٍ واحدةٍ جامِعَةٍ مُقدَّسَةٍ رَسُوليَّة.. نقِرُّ ونعترفُ بمَعموديَّةٍ واحِدةٍ لِمَغفرةِ الخطايا وننتظرُ قيامة المَوتى وحيَاة جَديدَة في العَالم العَتيد-آمين.
وفي هذا المجمع الذي أتى بتغييراتٍ إداريَّةٍ يتُمُّ مَنحُ كنيسةِ القِسطنطينيَّة اسمَ الكنيسةِ الرومانيَّة، كمَا يتُمُّ فيهِ إعتِبارُ الكنيسةِ الرومانية الأولى بينَ الكنائس لاْنها كانتْ أكبرَ منَ الكنيسةِ الأنطاكيَّة وكذلكَ منَ كنيسةِ الإسكندريَّة. أمَّا أبرشيَّة القِسطنطينيَّة فقدْ مُنِحَتْ درجَة البطريَركيَّة تقديراً لِلملكِ الذي كان يعيشُ في المدينة. ولهذا السَّببِ انفصلتِ الكنائسُ التي كانتْ مرتبطة بالكنائس الأنطاكيَّةِ والتحقتْ بكنيسةِ القِسطنطينيَّة ما أدَّى إلى ضَعفِ قوَّةِ الكنيسةِ الأنطاكيَّة التي بقيَتْ خاضعَة لإدارةِ وسُلطةِ الكنائِس والمَطارنةِ المُتوَاجدينَ في سُوريَّة وبلادِ الرَّافدَيْن فقط. في حين تُمنحُ مُطرانيَّة القدُس في هذا المَجْمَع المُقدَّس درجَة البطريَركيَّة لِتظلَّ قائِمَة بحَدِّ ذاتِهَا وتنفصِلَ عَن الكنيسَةِ الأنطاكيَّة.

يُتبع……….

‫شاهد أيضًا‬

البطريركية السريانية الأرثوذكسية تستذكر مجازر الإبادة الجماعية سيفو

دارمسوق(دمشق)- ترأّس قداسة البطريرك “مار إغناطيوس أفرام الثاني” بطريرك أنطاكيا…