05/03/2020

سلسلة تاريخ كنائس بلاد مابين النهرين (ختام الجزء الثالث)

لقدْ أدَّتِ الحروبُ الطَّاحِنة بينَ القِوى المُتصَارعَة على إحتِلال بلادِ الرَّافِدَيْن إلى إنقسام شعبنا وتجزئتِهِ- الأمْرُ الذي مهَّدَ لِولادَةِ كنيستيْن مُنفصلتين تناهِضُ إحداهُمَا الأخرَى، فيمَا راحَتْ بدعَة نسطور المُعلنة تشعِلُ الشَّرارَة الأولى لإثارَةِ النزاعاتِ والمُشَاحناتِ بينَ الكنائِس والبَطاركة.

تأخرتِ الإمبراطورية الرومانيَّة عن ركب التطورات الجارية ما أدى إلى إنقسام الشعب الى قسمين شرقي وغربي، حيث ظل القسم الغربي تحت السيطرة الامبراطورية البزنطينية والقسم الشرقي تحت السيطرة الامبراطورية الساسانية. وعلى أثر ذلِكَ تنقسِمُ أرضُ بلاد الرافدين أيضاً، ويُسمَعُ فيهَا قرْعُ طبُول الحروبِ والمعاركِ الطَّاحِنةِ بين الإمبراطوريَّتيْن ما أدَّى إلى انقِسام الشَّعبِ السُّرياني بينَ الإمبراطوريَّتيْن لِعدم وجودِ قوة سياسية وعسكرية تعمَلُ على حمايتِهِ. وبدَورهِ نجمَتْ عنْ هذا الانقسام تسميتان لشعبنا السرياني- سريان شرقيون وسريان غربيُّون، حيثُ صارَ السريان الموجودون تحت سيطرة الامبراطورية الساسانية مرتبطين بايمان الكرسي الرسولي الأنطاكي بينمَا الموجودون تحت السيطرة البزنطينية بقوا مرتبطين بايمان الكرسي الروماني. وفي الوقتِ الذي كانتِ الامبراطورية الايرانية تظن أن شعبنا يتجسَّسُ عليهَا لصالح الامبراطورية الرومانية فقد أطلقتْ يدَ جيشِهَا لِيُذيقَ شعبَنا مُرَّ الظُّلم والإضطهاد. ولم ينكفئوا عن ذلك إلا بعدَ تأكُّدِهِم منْ تهشُّم عُرَى الوشائج والروابط السريانية في بلاد الرافدين وإنقسامِهَا بينَ الإمبراطوريَّتيْن. أمَّا الشعبُ السرياني الشَّرقي ظلَّ تابعاً لِلكرسي الأنطاكي حتى عام أربَعِمِئةٍ وأربعَةٍ وعِشرين، في حين لمْ تتركِ الامبراطورية الايرانية أي إتصال للشعب السرياني الغربي مع الكنيسة الانطاكية مِمَّا أضطرَّ المطارنة إلى قطع علاقاتِهم معَ الكرسي الانطاكي، وأصبحوا أبرشية مستقلة بحدِّ ذاتِها إلاَّ بعقيدةِ الإيمان والطقوس الواحِدَة. وبدأوا في تعزيز المدارس الدينية الانطاكية مثل مدارس اللاهوت والقانون والفلسفة التي انتشرَتْ بين الرعايا في مدارس الرها ونصيبين. وكانَ كثيرٌ من الرهبان الذين يقرأون في هذه المدارس يقومون بالتبشير في أماكن مختلفة من بلاد الرافدين والاماكن التي تقبل الدراسات والسجالاتِ اللاَّهوتيَّة والتي كانتْ تحظى بإهتِمام كبير منْ جانبِ الشعب السرياني وفي الوقتِ ذاتِهِ كانتْ سبباً مُبَاشراً في إنقِسام الشعبِ على نفسِهِ. وفي القرن الرابع بدأ الحكم المسيحي يبسِط سيطرَتَه على كل بلاد الرافدين فازدادَ معَه عددُ المسيحين والكنائس والاديرة التي بنيت على المرتفعات الجبلية مثل دير مار كبرئيل ودير مار أوكين ومار شمعون العَمُودي والرَّبَّان هرمز ومار متى الموجود في نينوى وغيرها الكثيرَ منَ الأديرة التي لا تزال قائمة حتى اليَوم. ومنْ ناحيةٍ أخرى، أدَّتِ الجُّهودُ والخدماتُ الجَّليلة التي قدَّمَها الرهبان والكهنة إلى قبول الشَّعبِ السُّرياني وعلى إختِلافِ مذاهبه أكثرَ بالمسيحية في بلاد الرافدين والإيمان بها فأصبحتِ البطريركية الانطاكية تكبر مرة أخرى في بلاد الرافدين ما أدَّى إلى لفت إنتباه بطريركية القِسطنطينيَّة التي كانت مركزاً سياسياً وعسكرياً متصلة معَ الملك.
ولم تتدخل بطريَركيَّة القِسطنطينيَّة من الناحية الدينية بل من الناحية السياسية والعسكرية لإظهار قوتها وإبقاء الكنائس تحت تأثيرها وكانت تلعب دوراً كبيراً في خلق العقد والمشاكل في الكنائس فمثلاً تنصُرُالضعيف ضد القوي وعندما القوي يضعف تقف إلى جانبه وهكذا تكون قوتها دَوماً في الواجهة. أما من الناحية الثانية فكانت المسيحية تتوغلُ وتتعمَّقُ في الدراسات اللاهوتية وتنشرها بين فئاتِ وأوسَاطِ الشعب وهذا ما كان يريده الحكام. ونتيجَة لِذلكَ فقدْ قبلَ الشَّعبُ كلُّه بالمسيحية وعمِلَ على إزدهارها بالتوافق معَ علومِهِ وثقافتِهِ. ولكن القوات الحكومية التي قبلت المسيحية ديناً رسمياًّ وقفت في وجه التطورات التي كانت تحدث وعمِلتْ على توظيفِهَا لمصالحها الشخصية. في حين لم تكن أعمال كنيستي الإسكندرية وأنطاكية ظاهرة إلا أن مواقفهما كانتا ضِدَّ الكرسي القِسطنطيني. كما خرج كثير من القراء والمعارف من المدارس الانطاكية أمثال مار نارساي ومار يعقوب وغيرهما الذينَ اختلفوا معَها ببعض الإجتهاداتِ الفلسفيَّة حيث أن نسطور كان بطريرك الكرسي القسطنطيني ودرس في المدرسة الانطاكية لكنه تأثر كذلكَ في علم ورأي آريوس وبدأ في دراسة البدع الجديدة داخل الكنيسة وساهمَ في إنتشارها. غيرَ أنَّ مار كيرلُّس التابع لكنيسة الاسكندرية وقف في وجه هذا الرأي ونبذه وظل أميناً لكنيسته وعقيدتها.
في ظل إنعقاد مجمع إفسس عام 431 كان نسطور بطريرك كرسي القِسطنطينيَّة ومار كيرلُّس بطريرك الاسكندرية وقدِ أغرَقَ المجمع في دراساتٍ ونقاشات حادَّةٍ بينهما. في حين لم يشترك فيه بطريرك أنطاكيَّة ولا مطارنتها. لكن في نهاية المجمع أتخذ قرار بحِرمان نسطور لانه فصل كهنة المسيح عَنْ بَعضِهم، فمنهم نكروا أم المسيح ولم يقبلوا بعِبارَةِ “مريم والدة الإله”. ويقول قسم من علماء التاريخ “إنَّ السلطة والكرسي كانتا سبب تحريمه، لكن هذا السبب صغير جداً أمام هذا النكران”.
الخاتمة:
بهذا نأتي إلى نهايةِ الجُّزءِ الثالِثِ مِنْ بَرنامَج تاريخ كنائس بلادِ الرَّافِدَيْن. كونوا بإنتِظارنا في الجُّزءِ القادِم لِنِحَدِّثكم عَنْ مَجْمَع “خلقيدونيَة” وما احتضَنه مِنْ نِقاشَاتٍ وسِجَالاتٍ حادَّة حولَ طبيعَةِ المسيح الإبن- الأقنومُ الثاني في الثالوثِ الأقدَس.

‫شاهد أيضًا‬

دير مار أفرام السرياني في الشبانية

شبانية، لبنان – يعود تاريخ دير مار أفرام السرياني في قرية الشبانية، قضاء بعبدا، إلى أكثر م…