06/01/2023

بؤس الفلسفة اللّبنانيّة

يراجع جوزف سوفولاوس نزعات الفلسفة اللّبنانيّة ونتائجها المؤذية على المجتمعات اللّبنانيّة عمومًا، والإثنيّات المسيحيّة خصوصًا.

لا يوجد مسارٌ واضح المعالم سلكته الفلسفة اللّبنانيّة على غرار فلسفات الشّعوب الأخرى التي اتّسمت بمقاربةٍ أو مذهبٍ فلسفيٍّ طبع هويّتها في التّاريخ الفلسفيّ، كالمثاليّة الألمانيّة «German Idealism» وأعلامها (شليغل، فخته، هيغل…)، أو التّجريبيّة البريطانيّة «British Empiricism» التي يعود أصولها إلى الزّمن القروسطيّ (وتحديدًا روجر بيكون). ولا ريبَ في أنّ الفلسفة المُسمّاة «لبنانيّة» ابنةُ بيئتها، أي إنّ دافع التّفلسف لدى «الفلاسفة» اللّبنانيّين كان ولا يزال الواقع الإثنودينيّ «ethno-religious»، والتّعدّد الحضاريّ الثّقافيّ في الجمهوريّة اللّبنانيّة التي نشأت سنة 1920. ولكنْ هل ساهمت هذه الفلسفة المزعومة في تطوير حلولٍ أو وضع ملاحظاتٍ على فجوات الكيان اللّبنانيّ البديهيّة؟ وهل شكّل ما قدّمته طرحًا بديلًا أم خربشةً خاليةً من المعنى؟ وهل يصحّ أساسًا نعتها فلسفةً؟ وماذا عن حال المجتمعات التي زعمت أنّها لا تتفلسف إلاّ في سبيل تحقيق رفاهيّتها؟ أبلغت هذه الغاية المنشودة؟ طبعًا لن أقيم نقدًا لكتابات الفلاسفة «اللّبنانيّين»، ولنْ أضيّعَ وقت القارئ في تشريح وتفنيد قضاياهم تفنيدًا مفصّلًا، بل سأكتفي بمناقشة صنفٍ من الفلسفة اللّبنانيّة ما زال تأثيره الخطر مهدّدًا مصير إحدى هذه المجتمعات، وتحديدًا مصير الأقلّيّات الإثنيّة في لبنانَ، والمفارقة أنّ هذا الصّنف وُلد من رحم تلك الإثنيّات المقصودة، أعني المجتمعات المسيحيّة المشرقيّة. لذا لا بدّ من سبر أعماق الأصول الفلسفيّة لفهم حالة الجمود الفكريّ والأيديولوجيّ في هذه المجتمعات، والاغتراب السّياسيّ والاجتماعيّ عند أفرادها. وأحيانًا يبدو التزام الصّمت أمام التّفاهات خير ردٍّ عليها، ولكن عندما تتحوّل الخرافات العقائديّة إلى أيديولوجيا سياسيّةٍ قد تهدّد مستقبل شعبٍ بكامله عندئذٍ يصبح تشريحها إيضاحًا لخرافاتها واجبًا.
أصناف الفلاسفة اللّبنانيّين
طبعًا لا يمكننا حشر النّزعات الفلسفيّة وأنظمتها عند «الفلاسفة اللّبنانيّين» في صنفٍ محدّدٍ، إذ أدّت البيئة الاجتماعيّة الثّقافيّة دورًا في صقل شخصيّاتهم الفلسفيّة. وعلى الرَّغم من اجتماعهم على الهواجس عينها فقد اختلفت المقاربات الفلسفيّة اختلافًا كبيرًا إلى حدّ أنّها ثقبت فجوةً أخرى في الفجوات اللّبنانيّة التي زعموا أنّهم يتفلسفون فيها (أو دفاعًا عنها).
أوّلًا ثمّة المولّدون الباطلون، وهم أقلّه يستحقّون تقديرًا على عملهم الفلسفيّ الذي توشّى ترجمةً، وأسلوبهم الإعجازيّ الذي نفّر القرّاء جميعهم. ولعلّ ناصيف نصّار وموسى وهبه هما خير ما يمثّلان هذا الصّنف الذي وضع طروحات التّجديد، ولكنّه لم يحقّقها، وتفلسف بالنّحت والتّوليد أكثر من انشغاله بالفلسفة ممارسةً (ولا أعني بالممارسة المفهوم الماركسيّ بل العاديّ الشّائع).
ثانيًا، ثمّة المستوردون المفرغون، وهم الذين يفتقرون إلى الأصالة الفلسفيّة، فلا خيارَ أمامهم سوى محاولة التّوفيق بين أفكارٍ نشأت في مجتمعاتٍ ذات أعرافٍ وطبائعَ مختلفةٍ عن مجتمعاتهم وموروثٍ فلسفيٍّ أصيلٍ انطلق من «المسلّمات» الطّبيعيّة في المجتمع ليولّد تيّارًا فلسفيًّا جديدًا (كالفلسفة الإسلاميّة، أو الفلسفة السّريانيّة). وحتمًا لا يتطلّب الأمر عرّافة معبد دلفي لإدراك فشل المحاولة المحتوم. لا بدّ أنْ تنطلق أيّة فلسفةٍ من الأسس الاجتماعيّة، والفكريّة، واللّغويّة، والدّينيّة، التي تنطلق أساسًا منها، أي إذا بدأتَ في التّفلسف عليك أنْ تتفلسف في الذي تبدأ منه. ولكنْ لا أحدَ من هذا الصّنف يلزم نفسه بهذا الشّرط، لذا يجد المرء أنطون سعادة أنموذجًا رائعًا، فهو مستورد الفلسفة الفاشيّة الأوروبيّة التي نشأت في مجتمعاتٍ أحاديّةٍ غير مركّبةٍ. وعلى هذا النّحو يُفهم السّياق البعيد لما طرحه الرّجل، بخاصّةٍ الدّوغمائيّة المادّيّة، وفكرة المخلّص البشريّ الذي يقود حركة تقدّم التّاريخ المفترضة (ولم تمانع نرجسيّته أنْ يُطلق عليه تسمية الزّعيم)، والنّزعة إلى تدمير المعتقدات (وضمنًا الثّقافات) التي وفقًا له تمنع نشوء أمّةٍ قويّةٍ مفترضةٍ أسماها «سوريا الكبرى» (أو النّسخة المرقّعة عن جرمانيا النّازيّة). وطبعًا كحال معظم المستوردين يستورد سعادة الأساليب نفسها لممارسة مشروعه «الفلسفيّ»: محاولات الانقلاب، وازدراء الأديان عبر طرح ديانةٍ بديلةٍ، وتمجيد الأساطير العرقيّة والخرافات التي سبقت المؤسّسات الدّينيّة الإبراهيميّة (أي ما قبل انتشار المسيحيّة والفتح الإسلاميّ لبلاد الشّام)، من دون أنْ ننسى ذكر معاداة السّاميّة التي لاقت رواجًا بعد التّطهير الإثنيّ سنة 1948 وهزائم الجيوش العربيّة. وفي هذا الإطار نستطيع إضافة الماركسيّ مهدي عامل إلى هذا الصّنف (إلى جانب الماركسيّين والشّيوعيّين اللّبنانيّين)، حيث لم يمانع الاشتراك في حربٍ إثنيّةٍ طائفيّةٍ وتأسيس منطقٍ محكمٍ لقتل الذين يفترض أنّهم يشاركونه المواطنة، أي اللّبنانيّين المسيحيّين، بخاصّةٍ السّريان الموارنة. فقد اعتبر الماركسيّون المسيحيّين جميعهم برجوازيّي لبنان الذين وجب قتالهم ودحرهم وصولًا إلى إنشاء ديكتاتوريّة البروليتاريا التي اختلط تصوّرها عندهم بين المفهوم الاستبداديّ والحكم الأكثريّ الإسلاميّ، أي صبغة طائفيّة شرق أوسطيّة للجدليّة المادّيّة (ربّما هذا هو الإبداع اللّبنانيّ الذي يتغنّى به البعض).
ثالثًا، نعثر على صنف المفرغين. وتتصدّر قائمة الفراغ الفكريّ في الفلسفة اللّبنانيّة أعمال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه اللّذين تتوّجت كتاباتهما بالثّيوصوفيّة «theosophy»، وهي إحدى الخرافات المنمّقة التي تستهوي أصحاب المخيّلة العظيمة الذين يهربون هربًا من الجهد العقليّ. ولم يضف هؤلاء شيئًا إلى النّقاش الأساسيّ، بل خلافًا للمنطق السّليم حفروا في السّقف فجوةً كي يهربَ المواطن من مسؤوليّاته وواجباته نحو تفكيرٍ شعريٍّ يمجّد الذّات ويضعها في محور النّقاش سالخًا الإنسان عن مجتمعه ومؤلّهًا تصوّرًا موهومًا عن نفسه. ولكنّ هذا التّفكير الموهوم لم يلقَ رواجًا عند المجتمعات «اللّبنانيّة» التي تسعى إلى تأمين قوتها اليوميّ وعيشًا طيّبًا لأولادها، فنبذته بصفته ترفًا.
ولكنْ ظهر صنفٌ متفلسفٌ لا يزال تأثيره حاضرًا في الخطاب السّياسيّ، بل بات مرادفًا لما يُسمّى «الخطاب الوطنيّ»، وهو مجموعةٌ من الأفكار المبتذلة القائمة على أنسنة لبنان، وإعطاء المواطنين اللّبنانيّين رسالةً ميتافيزيقيّةً مفترضةً لوجودهم العرضيّ، فيما يتجاهلون التّحدّيات الفعليّة (البشعة)، فيخفونها خلف ستار التّقوى المصطنعة التي تؤلّه معاناة اللّبنانيّ وتلقي ملامة أخطائه على الآخر (الفلسطينيّ، الإسرائيليّ، البعثيّ السّوريّ…). هؤلاء اللّاهوتيّون المتفلسفون استلهموا علم الأخلاق المسيحيّ وطبّقوا مثله على الواقع المعقّد، وظنّوا أنّ بساطة طرحهم مؤشّرٌ على حقيقةٍ كامنةٍ فيه.
اللّاهوتيّون المتفلسفون
لقد برز هذا الصّنف من الفلاسفة من صلب المجتمعات المسيحيّة اللّبنانيّة. وكان هوسه التّوفيق بين شعوبٍ متناحرةٍ وطمس نزعاتها الانفصاليّة. وقد نزعوا إلى نوعينِ من التّفلسف: إمّا تعريبٌ (أو نحتٌ) مبالغٌ لا قيمةَ له، إمّا تكرارٌ لروحانيّةٍ شرقيّةٍ خير ما عُبِّرَ عنها باللّسان السّريانيّ، والنّوعان أسوء من بعضهما (أنْ لم نستعمل فعلاً آخر على أفعل التّفضيل).
قامت «فلسفة» هؤلاء على سؤال التّعايش في إطارٍ لاهوتيٍّ، ومن أبرزهم: كمال يوسف الحاج، وبشارة صارجي، ورينيه حبشي. لكنْ نظرًا للمجال الضّيّق، ومنعًا من سقوط المقال في الشّرح التّاريخيّ، سأكتفي بمناقشة ما طرحه كمال يوسف الحاجّ.
وضع كمال يوسف الحاجّ فلسفته منطلقًا من اللّاهوت المسيحيّ، وتحديدًا سرّ التّجسّد، وكأنّ مشاكل المجتمع اللّبنانيّ تُعالج بالكريسطولوجيا. ففي سرّ التّجسّد المسيحيّ نعثر على اتّحادٍ بين الجوهر والوجود، والجوهر عنده هو اللّه، لكنّ اللّه ليس الإله الفلسفيّ المجرّد من الصّفات والعواطف البشريّة كلّها، مثل الرّوح الهيغليّة «Geist»، إنّه الإله المسيحيّ الذي حامى عنه آباء الكنيسة ومفكّروها من طرطُليانس حتّى يوحنّا الدّمشقيّ، أي الكلمة أو اللّوغوس الذي «صار جسدًا وحلَّ بيننا» (يو 1:14). ومن اتّحاد اللّاهوت والنّاسوت في شخص المسيح انطلق الحاج نحو الفلسفة السّياسيّة ليصيغ تعادليّاتٍ أخرى مستوحاةً من تعادليّة الجوهر والوجود. وأيّة تعادليّةٍ شعريّةٍ تنطبق على الوضع القائم في الكيان اللّبنانيّ أكثر من مفهوم «النّصلاميّة» الذي نحته من كلمة نصرانيّة (وهي المصطلح العربيّ القديم الذي أطلق على طائفة المسيحيّن العرب في شبه الجزيرة، ثمّ استعمل لاحقًا للإشارة إلى الدّيانة المسيحيّة) وكلمة إسلاميّة. هكذا «لبنان ليس مسيحيًّا ولا مسلمًا، إنّه الاثنين…». طبعًا يدغدغ هذا المفهوم شعور الحالمين والطّوباويّين، لكنّ المؤسّسات المحترمة لا تُبنى على الكلمات الرّنّانة بل على التّصوّرات الواقعيّة للمجتمع.
وتكمن خطورة هذا التّفكير الشّعريّ في تأثيره المباشر على الأحزاب «المسيحيّة» التي جعلت صفقة الخوري-الصّلح أيديولوجيّتها المقدّسة. وهذا ما أدخل النّخب المسيحيّة في جمادٍ عقائديٍّ حدّد إطاره اتّفاقٌ أرستقراطيٌّ آنيٌّ لم يحترم الإرادة الشّعبيّة، أو أقلّه لم يستشرْها. لقد أصبح هذا الاتّفاق مرادفًا للوطنيّة، وباتت مراجعته (أو التّشكيك به) خيانةً للمجتمعات المسيحيّة نفسها التي رفضته أساسًا مع إميل إدّه. لقد قدّم هؤلاء اللّاهوتيّون المتفلسفون تصوّرًا رومنطيقيًّا للحال الفوضويّة اللّبنانيّة، بل علّلوها، وانتزعوا الرّوح النّقديّة من فكر الإثنيّات الميسيحيّة حتّى استدرجت الأحزاب العقائديّة بعض أفرادها، فأسرتهم بمقدّسٍ أكثر فلسفةً من قوّة المخيّلة المفرغة.
إذن متى يستفيق شعبنا من جماده الدّوغمائيّ؟ أعندما يستيقظ على أخبار المجازر أم عندما يتعدّى سعر ربطة الخبز ثمن كتب أنطون سعاده وكمال يوسف الحاج مجتمعةً؟
خاتمةٌ ليست خاتمةً
لا يمكن أنْ نقف عاجزين مثل كاسندرا التي عاقبتها الآلهة بألّا يصدّق إنسانٌ تحذيراتها. لذلك لا بدّ أنْ نعيد قراءة «الفلسفة» الحالمة التي أوصلتنا إلى هذا الحضيض الفكريّ، وأنْ نكفَّ عن أنسنة لبنان، وجعله متألّمًا أو متأنّقًا. لقد رمينا مستقبلنا ومستقبل أجيال شعبنا بأيدي شعراء حمقى راحوا يتغنّون بما لا وجود له. أقاموا طقوسًا ووضعوا ترانيمَ لأرضٍ موعودةٍ فيما نسوا شعوبها المقهورة. لا شيءَ أخطر على الإثنيّات المسيحيّة من أولئك المتفلسفينَ الذين صبغوا واقعهم باللّاهوت، وأقحموا الميتافيزيقا بعلم الاجتماع والفلسفة السّياسيّة، فولّدوا مفاهيمَ طفوليّةً تخجل منها الاشتراكيّة الطّوباويّة. هؤلاء اللّاهوتيّون المتفلسفون هم الشّوكران الفكريّ الذي تجرّعته الإثنيّات المسيحيّة، فانشغالهم بالمثل وتحقيق ملكوت الله على هذه الأرض أعمى حسّهم المشترك حتى اغتربوا عن أنفسهم بعد اغترابهم عن مجتمعاتهم. إذا أردنا أنْ نريحَ العالم من هباء الفلسفة اللّبنانيّة لاقترحنا إزالتها، أي الكفّ عن التّفلسف السّاذج. ولكنّ إزالتها سيعطيها قيمة الوجود، وهذه خاصّيّةٌ لا تستحقّها الفرضيّات اللّغويّة في القرن التّاسع عشر، فكيف تستحقّها فلسفةٌ أمضت حياتها على هوامش الميتافيزيقا وهدر أوراق الشّجر الأكثر قيمةً من «طروحاتها».

بقلم: “جوزف سوفولاوس” وهو كاتبٌ ومترجمٌ لبنانيٌّ متخصّصٌ في اللّسانيّات العربيّة والفلسفة التّحليليّة.

‫شاهد أيضًا‬

اكتشاف مقابر أثرية بنقوش سريانية في تركيا يزيد عمرها عن ألفي عام

في أعقاب الحفريات والأعمال التي جرت في منطقةِ “كيزيلكويون” في “أورفاR…