في اليوم العالمي للغة الأم.. اللغة السريانية حية لا تموت
في الحادي والعشرين من شباط من كل عام، تحتفي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو”، باليوم العالمي للغة الأم، وذلك من خلال دعوة الثقافات والشعوب إلى الحرص على تعلم اللغة الأم.
لكن ما قصة هذا اليوم، ولماذا هذا التاريخ تحديداً؟
القصة تعود إلى العام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين عندما فرض رئيس باكستان محمد علي جناح “الأوردو” كلغة وطنية.
قرار اعترضت عليه بنغلادش التي كانت تابعة لباكستان حينها تحت مسمى “باكستان الشرقية” من خلال حركة شعبية كبيرة سعت للحصول على اعتراف باللغة البنغالية الأم، وفي الحادي والعشرين من شباط عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين أردت الشرطة الباكستانية خمسة طلبة بنغال قتلى خلال مظاهرة في العاصمة دكا.
ولإحياء نضال شعبها، قدمت بنغلادش عام ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين مقترحاً لليونسكو لاعتماد هذا اليوم، كيوم للاحتفاء باللغة الأم، وهو ما تمت الموافقة عليه حينها، وأُدرج في روزنامة الأيام العالمية لأول مرة عام ألفين.
وتعد اللغة أحد أهم السمات التي تميز الشعوب عن بعضها البعض، فهي إرث حضاري، وتراث ثقافي كامل، لارتباطها بالتاريخ والناس والأمكنة.
عوامل قوة اللغة هذه، هي الأسباب ذاتها التي دفعت الكثير من الدول الاستعمارية لمحاولة طمسها بهدف محو تاريخ البلدان التي احتلتها، كما مارست ذلك الأنظمةُ الاستبدادية في المنطقة بعد زوال الاستعمار، وهناك أمثلة حية على ذلك.
فاللغة السريانية التي تعد أم اللغات المشرقية في العالم القديم والحديث، لم تسلم من حملات ممنهجة لطمسها ومحوها من عقول وأفئدة الناطقين بها.
تعتبر السريانية اللغة الأم للسريان الآشوريين الكلدان المنتشرين في العراق وتركيا وسوريا، خاصة في مناطقهم التاريخية في بيث نهرين، المناطق التي لطالما جمعتهم على مدى تاريخهم الغابر حيث أضحت اللغة الموحدة من أهم العوامل التي توحدهم.
وتكتسب اللغة السريانية أهمية دينية خاصة في المسيحية، أولاً لأن السيد المسيح تكلم بها، وثانياً لأن العديد من كتابات آباء الكنيسة والتراث المسيحي قد حُفظت بالسريانية، إلى جانب اللغة اليونانية، وفي الكنائس التي تتبع الطقس السرياني لا تزال تستخدم اللغة السريانية بشكل يومي في القُداس الإلهي وعدد من العبادات الأخرى.
كما تكتسب اللغة السريانية أهمية تاريخية خاصة للمنقبين والمؤرخين وعلماء الآثار، إذ معظم الوثائق والمخطوطات القديمة كانت تُكتب بالسريانية، إلى جانب تفكيك الكتابات المسمارية الأكادية باعتبار أن السريانية المحكية والمكتوبة اليوم هي من السلسلة الأكادية المؤسسة.
وكانت اللغة السريانية على اتصال دائم باللغات الأخرى في المنطقة، لا سيما العربية، وجاء التكامل الأعظم بين اللغتين إبان قيام الدولة الأموية، إذ بقت السريانية لغة الدواوين وهيئات الدولة حتى عهد عبد الملك بن مروان.
ورغم تعريب الدواوين، ظلت السريانية لغة التخاطب الوحيدة بنسب متفاوتة في القرى والمدن السورية بشكل عام حتى العهد المملوكي في القرن الثاني عشر، إلى أن زاحمتها اللغة العربية كلغة تخاطب بين أغلبية السكان لأسباب سلطوية بحتة.
وازدهرت اللغة السريانية خلال الفترة الممتدة بين القرنين الرابع والسابع، إذ كان للغة السريانية الدور الكبير في العلاقات بين الشعوب والمجتمعات القائمة في السابق، فهي كانت اللغة التي يفضلها التجار في معاملاتهم.
واعتُبرت اللغة السريانية لفترة طويلة من الزمن لغة العلوم والفنون والآداب، وكانت مقسمة إلى لهجتين وأبجديتين متقاربتين، الأولى السريانية الغربية نسبة إلى غرب نهر الفرات والثانية هي السريانية الشرقية نسبة إلى شرق نهر الفرات.
وتكتب اللغة السريانية بالأبجدية السريانية المؤلفة من اثنين وعشرين حرفاً تجمع في خمس كلمات هي أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت.
وتحوي حركات إعرابية تختلف بين السريانية الغربية والسريانية الشرقية، وكسائر اللغات السامية فإن اللغة السريانية تكتب من اليمين إلى اليسار ومن أعلى الصفحة إلى أسفلها.
ومع جهل العرب باللغة اليونانية التي كانت لغة معظم الكتب والمؤلفات العلمية القديمة، استعان الخلفاء المسلمون ومن بينهم هارون الرشيد وابنه المأمون بالسريان الذين عُهدت إليهم عملية الترجمة من اليونانية إلى السريانية ومنها إلى العربية.
كذلك فقد نقل العرب، الأدب السرياني بكامله إلى لغتهم وقد أقر المؤلفون العرب القدماء، كابن أبي أصيبعة، والقفطي، وابن النديم والبيهقي، وابن جلجل وغيرهم، بقصة علاقة العرب بالأدب السرياني والمؤلفات التي ترجمت عن السريانية إلى العربية في أرجاء الدولة العباسية والأندلس.
وعلى الرغم من عدم استعمالها اليوم كلغة تخاطب رسمية بين أغلبية السكان، فإن تأثيرها في اللغة العربية خصوصاً المحكية في بلاد الشام يبدو قوياً وواضحاً، كذلك الحال بالنسبة لأسماء الأماكن والبقاع.
وفي ظل الأزمات والحروب التي عاشتها المنطقة على مر العصور، عانت اللغة السريانية الكثير من قرارات الحكومات التي حكمت البلدان التي يعيش فيها ناطقوها، فمن التضييق تارةً، إلى المنع من تعملها ودراستها، إلى فرض عقوبات على من يتحدث بها.
هذه الممارسات وغيرها على مدار عقود، بالإضافة لعوامل أخرى، دفعت اليونسكو لتوقع اختفاء نصف لغات العالم المنطوقة والتي يقدر عددها بأكثر من خمسة آلاف لغة بحلول نهاية هذا القرن، لا سيما أن أربعين في المئة من البشر لا يحصلون على التعليم بلغتهم الأم وهو ما يهدد باندثارها.
وبعد عقود من الظلم البين الذي لحق باللغة السريانية في سوريا، جاءت تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا، التي قررت السماح لمكونات المنطقة بالتعلم بلغتهم الأم ضمن مناهج تراعي ثقافة المكونات وتاريخها ومعتقداتها الفكرية والدينية.
وقد بادر حزب الاتحاد السرياني المشاركة في هذا المشروع من خلال اختيار نخبة من المؤلفين السريان بوضع مناهج باللغة السريانية لكافة المراحل الدراسية وتشمل كافة المواد.
والآن يرتاد الآلاف من الطلاب مدارس الإدارة الذاتية في الحسكة والقامشلي وقبري حيووري وديريك وقرى حوض الخابور، لتعلم لغتهم الأم، اللغة السريانية، على أمل معرفة أسرار ومكامن جمال هذه اللغة الضاربة أطنابها في التاريخ.
حفل تخرج طلاب في جامعة أنطاكية السورية الخاصة وفي معهد التثقيف المسيحي ببغداد
أقيم مساء يوم السبت، حفلُ تخرّج الدفعة الثالثة لطلاب جامعة أنطاكية السورية الخاصة، بحضور ق…