25/04/2024

مليون شهيد على مذبح التغيير الديموغرافي

لكل شعب أو قومية ما قصة ما تنتقل عبر الأجيال، لتصبح فيما بعد جزءاً من ذاكرته المجسدة في مخيلة كل قاصٍ لها، بما تجود عليه الكلمات، التي تقف أحياناً عاجزة من هول ما لاقاه بعضهم من ظلم وبطش على يد من كانوا يملكون القوة والسلاح.
الشعب السرياني الآشوري، أحد الشعوب التاريخية والمعمرة في بلاد ما بين النهرين منذ آلاف السنين، كان له أسوة بغيره من الشعوب قصة يطغى على تفاصيلها لون الدم، والأفئدة المرهقة، والأرواح التي أُزهقت عن عمد، على يد العثمانيين، ومن سار على خطاهم فيما بعد.
مذابح السيفو
نسمات ربيع عام 1915 لم تكن لطيفة على الشعب السرياني الآشوري، بل كانت مخضبة برائحة الموت، الذي لم يفرق بين مسن كبير أو شاب يافع أو طفل صغير أو امرأة، فالجميع لا حول له ولا قوة، أمام آلة البطش العثمانية.
ومع أن المجازر العثمانية بحق الشعب السرياني الآشوري بدأت منذ عام 1895، في منطقة ما بين النهرين ومناطق سيداس وساسون وخربوط، إلا أنه بتاريخ الـ 24 من نيسان/ أبريل من عام 1915، بدأت ما عرف لاحقاً بـ “مذابح السيفو” وهو المصطلح الذي أُدرج في قواميس اللغة بعد أن فقد مئات آلاف الأشخاص من الشعب السرياني الآشوري حياتهم، خلال رحلة التهجير التي أُجبروا عليها بأوامر عثمانية من قراهم وبلداتهم في طور عابدين وماردين وديار بكر وأورفا، نحو الجنوب، أي باتجاه الصحراء السورية.
همجية العثمانيين آنذاك، لم تأت من فراغ، فحينها كانت الدولة العثمانية على وشك الأفول، مع انكساراتها المتتالية في الحرب العالمية الأولى، فصبت جام غضبها على الشعب السرياني الآشوري الأعزل.
التقديرات تشير إلى أن الشعب السرياني الآشوري فقد أكثر من 500000 شخص من بينهم نساء وأطفال، إذ كانت الخطة العثمانية قائمة على مبدأ قتل الذكور في البداية، قبل أن تستكمل المرحلة الثانية بتهجير النساء والأطفال والمسنين سيراً على الأقدام نحو الجزيرة السورية، مع حرمانهم من الغذاء والماء، وتعرض الكثير منهم لنهب ممتلكاته الشخصية، فيما كانت النساء عرضة للاغتصاب من قبل الجنود العثمانيين، بالإضافة إلى عمليات القتل بدم بارد بالسيف وبالسلاح الأبيض من جز رقاب وقطع أعناق، ومنها أطلق اسم “سيفو” على هذه الإبادة، أو كما عرفت بمجزرة الثلوج الحمراء، تلك الثلوج التي تلونت بلون الدم، من كثرة جرائم القتل التي حدثت حينها.
وخلال رحلة التهجير القسري للشعب السرياني الآشوري من أرضه التاريخية، كان الجوع والعطش والإرهاق والغرق من نصيبهم، ناهيك عن إمعان الجنود العثمانيين في إذلال كل من قاوم الموت منهم، أو من لم يختره الموت وتركه يصارع حرارة الشمس.
مذابح السيفو ترافقت في نفس الوقت مع الإبادة الجماعية للأرمن، التي نفذها كذلك العثمانيين، ولذلك لم يسلط الضوء على هذه المذابح بما فيه الكفاية، ولم يُقرها إلا عدد قليل من الدول، رغم العدد المهول للضحايا، وإبادة قرى كاملة عن بكرة أبيها.
وتأتي في مقدمة هذه الدول السويد التي أقرت المذابح عام 2008 بموافقة أغلبية أعضاء البرلمان السويدي، وفي السويد، التي تحتضن جالية كبيرة من الشعب السرياني الآشوري، يوجد نصب تذكاري لهذه المذابح، كما يوجد في مدينتي شيكاغو وكاليفورنيا الأمريكيتين نصبين تذكاريين، يشهدان إحياء المذابح في الـ 24 نيسان من كل عام، كما يحيي حزب الاتحاد السرياني في سوريا ذكرى هذه المذابح كل عام في عدة مدن مثل القامشلي والحسكة وديريك وفي مدن سورية أخرى.
وفي ذكراها المئوية أقرت الكنيسة السريانية الأرثوذكسية المذابح، كما أقرت إحياء ذكراها في الـ 15 من حزيران/ يونيو من كل عام، وحدد هذا التاريخ لأنه اليوم الذي شهد أكبر عدد من الضحايا من الشعب السرياني الآشوري.
كما أن مجلس بيث نهرين القومي نظم العديد من الفعاليات من أجل حصول اعتراف دولي بالإبادة، وذلك من خلال لفت الانتباه للآثار التي لحقت بالشعب السرياني الآشوري بعدها، ولكي تكون القضية مدرجة ضمن أجندات المسؤولين في كافة الدول الأوروبية.
ورغم الفاجعة التي حلت بالشعب السرياني الآشوري، وترحيله عن أرضه التاريخية، ما يزال النظام التركي وريث الدولة العثمانية يرفض فكرة الاعتراف أو الاعتذار عن تلك المذابح، بل على العكس فقد أقر برلمان النظام التركي قانوناً يُجرم كل مواطن تركي يعترف بالمذابح.
مجزرة سيميل
وليس ببعيد عن عام 1915، وعندما كان الشعب السرياني الآشوري ما يزال يلملم جراحه، جاءت مجزرة سيميل، تلك البلدة الواقعة بالقرب من مدينة نوهدرا بالعراق في سهل نينوى عام 1933، والتي ارتكبها الجيش العراقي بحق آلاف السريان الآشوريين الراغبين بنيل حقوقهم في الدولة حديثة العهد آنذاك، لا سيما مع تزايد مخاوفهم من أن دولة العراق لا تستطيع تقديم الحماية لهم.
المجزرة جاءت من خلال صمت بريطانيا التي كانت تحتل العراق آنذاك، وتعاون فرنسا التي كانت تحتل سوريا في ذات الوقت، وهي التي جردت السريان الآشوريين من أسلحتهم في رحلة اللجوء نحو سوريا وأعادتهم عزلاً من حيث أتوا، وتبلورت المجزرة تماماً مع تكليف الحكومة العراقية للقائد العسكري العراقي بكر صدقي بمواجهة السريان الآشوريين، وما كان منه إلا أن أمر قواته بملاحقة السريان الآشوريين في المناطق الجبلية الواقعة شمال غرب الموصل، واتصفت عملياتهم بالدموية بعد تصفيتهم لكل من يتم القبض عليه في الجبال.
وتوجه صدقي مع قواته في الـ 7 من آب/ أغسطس من عام 1933 إلى بلدة القوش، وأمر جميع الأهالي في المنطقة بتسليم سلاحهم والتوجه إلى مخافر الشرطة، ونفذ الأهالي ما طلب منهم، وهاجروا من قراهم نحو بلدة سيميل، لتباد بعد ذلك قرابة 60 قرية آشورية، وفي اليوم التالي دخلت القوات الحكومية بقيادة قائمقام زاخو وضابط عراقي يدعى إسماعيل عباوي، وبدأت بفصل النساء والأطفال المتواجدين في المخفر عن الرجال.
وما هي إلا لحظات حتى بدأت المجزرة، إذ انهالت الطلقات النارية من أسلحة الجيش العراقي على صدور بعض السريان الآشوريين المغلوب على أمرهم، أمام أعين نسائهم وأطفالهم، فيما كان الضرب المبرح حتى الموت نصيب البعض الآخر منهم، قبل أن تُرص جثثهم في أكوام وتدفن في التلال الأثرية في بلاد ما بين النهرين.
وإلى الآن لا يعرف العدد الحقيقي للمقابر الجماعية للسريان الآشوريين، الذين يقدر عددهم في تلك المجزرة وفق بعض المصادر بنحو 3000 ضحية.
وفيما بعد كرم الأمير غازي ولي عهد العراق آنذاك بتكريم منفذي المجازر التي أودت بحياة آلاف السريان الآشوريين الأبرياء، وحينها كان التحريض على أشده ضد الشعب السرياني الآشوري، الذي اتهم من قبل الحكومة العراقية والصحافة الموالية لها بتنفيذ تمرد وحرق الجسور وتسميم مصادر المياه.
وبعد مرور عدة عقود على تلك المجزرة التي طالها النسيان لدى البعض، والنكران لدى البعض الآخر، وافقت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2020 على مشروع قرار قدمته النائبة عن ولاية أريزونا “ديبي ليسكو” للاعتراف بالمذبحة، ورفض إنكارها من قبل أي إدارة أمريكية مقبلة، كما نصت على تشجيع الشعب الأمريكي على التعرف على تلك المجزرة.
ذلك الاعتراف أغضب النظام التركي، لأنه جاء بعد فترة وجيزة من اعتراف أمريكي مماثل بالإبادة الجماعية للأرمن على يد الدولة العثمانية.
حوض الخابور
تمضي السنوات والشعب السرياني الآشوري يعيش حياته بحلوها ومرها، في أرضه التاريخية، بعيداً عن التجاذبات السياسية والدينية التي أودت بالمنطقة إلى الدرك الأسفل، حتى ظهر إلى الوجود تنظيم إرهابي اسمه “داعش”.
هذا التنظيم بدأ بالتمدد في كل من سوريا والعراق مستغلاً الوضع الأمني الهش في البلدين مع بدايات العشرية الثانية في الألفية الثانية، إذ بدأ عناصره يقتحمون القرى والبلدات ويحكمون قبضتهم عليها بالحديد والنار.
تمدد التنظيم الإرهابي لم يقتصر على المناطق الحدودية بين البلدين، بل وصل به الأمر ليحتل 14 بلدة وقرية آشورية في شباط/ فبراير من عام 2015 في حوض الخابور في الحسكة في سوريا، وخطف حينها أكثر من 250 شخص من الآشوريين بينهم نساء، فيما أُجبر من تبقى منهم على النزوح من أرضه خوفاً من بطش داعش الذي أمعن في امتهان كرامة الناس في المدن والبلدات التي كان يسيطر عليها.
وما هي إلا ثلاثة أشهر حتى سطر مقاتلو المجلس العسكري السرياني أعظم البطولات من خلال مقاومة فريدة من نوعها، قدم خلالها شهداءه الأوائل من أجل الحرية، وتمكنت قوات المجلس العسكري السرياني بالتعاون مع وحدات حماية الشعب وقوات التحالف الدولي، التي أمنت دعماً جوياً في بعض فترات القتال، من تحرير تلك البلدات والقرى من نير الإرهاب الداعشي، ويتم تحرير آخر مخطوف لدى التنظيم الإرهابي بعد ذلك بنحو عام.
بالطبع انسحاب عناصر التنظيم الإرهابي لم يكن وردياً، إذ فجر عناصر داعش كنيسة السيدة العذراء مريم في قرية تل نصري، وكانت إحدى ثمان كنائس لاقت نفس المصير على يد الإرهابيين، الذين فخخوا مئات المنازل في القرى المحررة، وزرعوا الألغام في الشوارع والطرق الرئيسية في تلك القرى.
كما أن التحرير جاء بعد تضحيات عظيمة ومقاومة كبيرة من قوات المجلس العسكري السرياني ووحدات حماية الشعب، وأثبت أن ما زال هذا الشعب يملك الرغبة بالحياة في أرضه التاريخية، الأرض التي سقاها بدماء أبنائه وبناته، وقدم من أجلها الغالي والنفيس.
اليوم تخلو معظم القرى الآشورية من سكانها الأصليين، إذ دفعتهم الأوضاع الأمنية المتردية، في عموم المناطق والمدن السورية كحلب والرقة ودير الزور ودمشق وحمص، والتي ازدادت سوءاً أكثر وأكثر مع احتلال النظام التركي لرأس العين وتل أبيض في خريف عام 2019، إلى هجرة معظمهم لدورهم وأراضيهم التي عاشوا فيها لعقود، وذلك لوقوع تلك القرى على خطوط التماس مع الفصائل الإرهابية التابعة للاحتلال التركي، والتي تمطر حقدها على شكل قذائف بين حين وآخر على تلك القرى ومنازلها.
التهجير من الموصل
ما حصل في حوض الخابور لم يكن التجربة الأولى للشعب السرياني الآشوري مع تنظيم داعش الإرهابي، فهذا التنظيم خيره بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو ترك مدينة الموصل التي احتلها صيف عام 2014.
وحينها ولأول مرة في تاريخ بلاد النهرين منذ آلاف السنين خلت مدينة الموصل من الشعب السرياني الآشوري، إذ خرجوا من المدينة تاركين خلفهم كنائسهم ومنازلهم وذكرياتهم.
وبعد ثلاث سنوات، أي بعد تحرير المدينة من الإرهاب، لم تعد الحياة كما كانت في ثاني أكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد، فالدمار كان عظيماً، والعودة إلى هناك كانت محملةً بكم كبير من المخاوف، التي أرجأت فكرة العودة لدى البعض، وألغتها تماماً لدى البعض الآخر.
حادثة حريق عرس بغديدا
وفي بلدة بغديدا على بعد نحو 32 كم جنوب شرق مدينة الموصل، كان الشعب السرياني الآشوري في أيلول/ سبتمبر 2023 على موعد مع القدر، ليرفع العديد منهم إلى مرتبة الشهداء، بعد اندلاع حريق في حفل زفاف راح ضحيته أكثر من 132 شخص الكثير منهم نساء وأطفال ومئات الجرحى حالات البعض منهم حرجة.
السلطات العراقية فتحت تحقيقاً في ملابسات الحادث الذي غطى قلوب الشعب السرياني الآشوري بالسواد، وخلصت إلى إقالة عدد من المسؤولين المحليين، مشيرة إلى أن سبب اندلاع النيران في صالة الأفراح كان مصدر ناري لامس مواد سريعة الاشتعال، وأن الحادث عرضي.
نتائج التحقيق هذه لم يقتنع بها الشعب السرياني الآشوري، وطالب بتحقيق دولي يكون مبنياً على أسس واستراتيجية واضحة، على عكس التحقيق المحلي الذي أظهر أن المسؤولين الفاسدين في العراق موجودون فقط في البلدة.
ويتخوف الشعب السرياني الآشوري في سهل نينوى أن حادثة الحريق ما هي إلا جزء من مخطط أكبر يشرف عليه الحشد الشعبي العراقي يهدف لتهجيرهم من أرضهم التاريخية، خاصة وأن هذا الهدف بدأت ملامحه بالظهور في ظل سياسات ممنهجة من قبل الحشد الشعبي أو بإشرافه للسيطرة على تلك المنطقة ذات الخصوصية التاريخية للشعب السرياني الآشوري، والتي جاءت بالتزامن مع بدء الشعب السرياني الآشوري في سهل نينوى بتوحيد صوته والمطالبة بحكم ذاتي.
ومما سبق نستخلص أن القتل والدمار استهدف الشعب السرياني الآشوري ويستهدف قراهم وبلداتهم على مر التاريخ، لكن لا المواثيق الدولية حمتهم ولا تشريعات حقوق الإنسان أنصفتهم، وهو ما يفرض على المجتمع الدولي، أخلاقياً، الاعتراف بتلك المجازر، وإنصاف الضحايا وذويهم.
ورغم كل المجازر والاضطهاد والتهجير والتدمير للكنائس، يبقى الشعب السرياني الآشوري ساعياً للسلام، وداعياً للمحبة، ومحباً للحياة، مستذكراً شهداءه، بكل وقار وإجلال، ليس انتقاماً أو كرهاً للشعوب، لكن للمطالبة بالاعتراف بهذه المجازر التي راح ضحيتها مئات الألوف على مر السنين، والاعتراف كذلك بالشعب السرياني الآشوري، وبكافة حقوقه المشروعة في أماكن تواجده في أرضه التاريخية ووطنه بيث نهرين، وذلك من خلال إيجاد دساتير عادلة ومنصفة في تلك الدول التي يتواجد فيها، بالإضافة إلى إيقاف سياسات التغيير الديموغرافي والتهجير والتهميش، وأيضاً لمنع تكرار هذه المجازر مرة أخرى، فالكشف عن الحقيقة وقبولها من قبل المجتمع الدولي، يساعد في السير في طريق نحو السلام بين الأمم في المستقبل.

‫شاهد أيضًا‬

صيدنايا.. حيث يتجاور القيد مع قدسية الكنائس

ارتبط اسم صيدنايا لدى السوريين بالكثير من الألم والعذاب، كيف لا وقد اختارها النظام السوري …