15/06/2024

لعنة الأماكن المهجورة…. صراخ ضحايا مذابح السّيفو كابوسٌ يطارد تركيا

“ناديت أخي الكبير بابا مع ذلك بقيت القدرة على تخيل وجهه حسرة، كانوا يضعون حجراً كبيراً على ظهر العسكري المسيحي ويكسرونه، طعنني أحدهم بالخنجر وداس على رأسي وأصابعي، أثرُ دخان النّيران التي أضرموها بآلاف المسيحيين في قبو كنيسة مهجورة مُطبوعٌ على نوافذها حتى الآن” قصصٌ وحكايا، وصلت إلينا عبر من نجو من مذابح السّيفو، ليصفوا رعبها لأبنائهم وأحفادهم، وتبقى أشباح ضحاياها تحوم في الأرجاء، تنتظر أن تأخذ العدالة مجراها.
إن ذكرت أمام أي سرياني آشوري عام 1915، فإن علامات الانزعاج ستظهر على وجهه تلقائياً، ذلك لأن خيالات قصص الألم الأكثر رعباً وبشاعة، التي عاشها أجداد هذا الشّخص على يد العثمانيين، وإن لم يحضر المجازر ستتسلل إلى تفكيره، ولربما يسمع أصوات صرخات وأنين، إن زار تلك الأماكن التي شهدت المجازر في أكثر من 346 قرية بتركيا، أو نظر إلى صورة أو ذكرى ورثها عن أقربائه.
ولو بحثت عن هذه المجازر التي فقد خلالها الشّعب السرياني الآشوري الكلداني حوالي مليون نسمة مع خسارة جميع ممتلكاته وأمواله، فإن بشاعة الصّور ستجعلُ عينيك تذرفان الدّموع، لأنك سترى رجالاً معلقين في الهواء، ومقابر جماعية، أطفالٌ عراة انكمشوا على أنفسهم من الخوف من سطوة خناجر لا ترحم، ونساء ببطون مفتوحة وأحشاء خرجت منها، وغيرها الكثير.

“مقاومة قبضةِ من دم”

قال سليم جرجس الذي ولد عام 1928 في ماردين التركية، “هربنا من مسقط رأسي عندما كان عمري 15 عاماً، كنت طالباً في دير الزعفران، وخلال السّاعة ونصف سيراً على الأقدام إليها، كنا نمر على كنيسة مار جرجس في قرية مرأة، ونلعب بالدحل على الأرض”.
وشرح سليم أنه بالرغم من عدم ولادته خلال فترة مجازر السيفو، إلا أنهم أخبروه بالواقعة، “كان العساكر يأخذون الرجال، النساء والأطفال، وحتى الرّضع من أحضان أمهاتهم ليقتلوهم، قتلونا واستمروا بقتلنا، وخلال تلك المجازر توفي والدي قبل أن أولد، كسروا الأبواب ونهبوا محال المسيحيين”.
وأشار إلى أنهم ساقوا والدته على ظهر الخيل مع النساء لإعدامها، ولكن “أحد المُسلمين أنقذها وكان اسمه مجيد حاج كالو، وكان لديه ابنة مُسلمة، ورغم ذلك سبى شابتين مسيحيتين ليعطيهما لابن اخته الأكبر، وهربت والدتي عن طريق كنيسة مار آسيا في المنصورية، التي تحولت الآن إلى جامع محمد الحكيم”.
وأثناء تقليبه في هويته التركية التي بدت قديمة وممزقة، بورق أصفر رث، تابع حديثه، “قتلوا جدتي وأخ لي، لأنهما لم يُسلما، وأتينا إلى عامودا، كنت أعمل بالحمالة لنعيش، كانوا يضعون الأكياس الثقيلة على ظهري الغض، وأنا أحملها وأتمايل يمنة ويسرة، ربما لو كان والدي حياً، لما تركنا نعاني ذلك”.
ونوه سليم إلى أنهم أخبروه أنه رغم القبضة الدموية القاسية، شقت المُقاومة بأشكالها طريقها إلى النّور، “الخوري ملكي كان يدق ناقوس الكنيسة ليتجمع بعض المسيحيين وينبهوا رفاقهم الآخرين إلى أن الخطر قادم، وخارج ماردين كان هناك مجموعة من جبل الطور حاولوا المقاومة، وكذلك بيت كلو شابو الذين اشتهروا بالقوة، وراهب من بيت قرباشي كان يزوج الفتيات والشبان في الكنيسة رغم التشديد الخانق”.
ومن جانبه يقول سنحريب برصوم، الرئيس المشترك لحزب الاتحاد السرياني في سوريا، لسيرياك برس، “عندما نتحدث عن السّيفو، فترة قوة السّلطة العثمانية، نجد أن هذه الأنظمة حاولت استغلال الشّعوب والمكونات ليستمر حكمها.
ويصف برصوم هذه المجازر بـ “الفتنة”، كونها حرضت مكونات ضد أخرى.
وعلى ما يبدوا أن مجازر السّيفو كانت على ثلاث مراحل، فبدأت المرحلة الأولى منذ عام 1890 حتى 1909 عندما أرسلت الدولة التركية ميليشيات لسطو ونهب المسيحيين، الذين قضى منها 300 نسمة بعد أن ماتوا في الجبال والبراري، والثانية وهي العالقة في الذاكرة كانت منذ 1915 حتى 1970، وأدت إلى تهجير ما تبقى من الشعب نحو الدول الأوروبية، والثالثة ما تزال مستمرة، بحسب ما كتبه جوزيف لحدو.

“خنجر الثّلج الأحمر”

يشير الجد كوركيس شابو أفرام السّرياني الآشوري، في إحدى اللقاءات التلفزيونية على فضائية سورويو منذ عدة سنوات، إلى ظهره ليبرز أثر خنجر طبعه أحد مرتكبي مجازر السّيفو، ليظل علامة تؤجج الذّكريات والآلام كلما مر الزّمن.
ويشرح الرّجل التّسعيني الذي كان يقطن في مدينة سودرتيليا في السّويد آنذاك، “كانت أمي تحمل أختي الصّغيرة وكنت معها، جاء رجل ليختطفها، فقاومت، هددوها بقتلي، إلا أن إصرارها على موقفها لم يتزعزع، وعندها طعنني أحدهم بالخنجر”.
ويكمل “بعد طعني، ركلني على ظهري وكسر أحد أضلاعي، ودهس بقدمه على رأسي ثم أصابعي، أذكر أنني بقيت ملقى على الأرض من الصّباح حتى المساء بين الحجارة، وحيداً، لا قوة لدي لأبكي، والدماء جفت على ظهري، وأنا موشك على معانقة الموت”.
وقال “جاء شخص آخر وأخذ حجرة وأراد أن يحطم رأسي بها، إلا أن امرأة كانت تقف تحت شجرة تحمل بيدها ماءاً وخبز، أوقفته وطلبت منه قتلها عوضاً عني، فأنقذتني، واعتنت بي بعد أن سحبتني إلى تحت الشّجرة، وسقتني ماءاً، وبعد ذلك مرّ شخص من جوارنا، طلبت منه أن يأخذني معه، فوافق”.
وأضاف “وضعني في كيس على ظهر حمار، وأخذني معه إلى ستراتو، وبعد ثلاث أيام، تركني وحدي على قارعة الطّريق، فجاءت الكلاب لالتهامي، صرخت بها وأخفتها، فابتعدت”.
وفي كثير من الأحيان يطلق على مجازر السّيفو “الثلج الأحمر” لأن بياض الثلج تلطخ بحمرة دماء ضحاياها، التي انهمرت غزيرة على الأرض.

“حجارة معجونة بالذّل”

في إحدى ساعات المساء العليل، كان هناك امرأة قد أخذ الكبر منها مأخذه، تجلس على مقعدِ في حديقة تضج بأغانِ سريانية جميلة، تركز معها غير منتبهة إلى ما حولها، والواقع أن تلك السيدة اسمها ملكي كارات، إحدى الناجين وعائلتها من تركيا خلال فترة مجازر السيفو.
وتقول ملكي لسورويو “كنت صغيرة جداً، أخبرتني عائلتي أنهم كانوا ينتزعون الجنين من أحشاء والدتي بالسيف، والواقع أننا خرجنا من تركيا عندما بلغت الـ 14 أو الـ15 عاماً من العمر”.
وعن السبب الرّئيسي تذكره كارات بقولها “لم يقتربوا من عائلة جدي، لأنه كان طبيباً، وهم بحاجة إليه لعلاج المرضى والمُصابين، لكن والدي كان في الجيش آنذاك، وهم كانوا يجبرون العساكر المسيحيين في الجيش التركي على الاستلقاء على بطونهم، ويضعون صخوراً كبيرة على ظهورهم، فإما أن يكسروها فوق ظهرهم أو يأمروهم بحملها والسير”.
وهي تحاول تذكر الأحداث بصعوبة كونها كانت طفلة صغيرة تشير إلى أنّ نجاة عائلتها “لا تنفي الظلم الذي تعرض له المسيحيون عموماً، إذ كانوا يقتلون المسيحي فقط في حال عدم قدرته على السير وإكمال الطريق”.
وعن ذلك يشرح سنحريب برصوم أنّ “الكثير من الممارسات الشوفينية التي أعقبت مجازر السّيفو، كان هدفها ترهيب الشّعب وتهجيره للاستيلاء على ممتلكاته وأراضيه، وهذه السياسات مُستمرة ولم تنتهِ، وكان وما يزال هدفها إنهاء الوجود السرياني والمسيحي من الأراضي التركية، لذا لا بد من الاعتراف بالمجازر، لإنهاء الضغوط الموجهة نحو هذا المكون، ليتمكن من العيش بسلام على أراضيه”.

“سرقة مشرعة”

وبالعودة إلى الحاضر، يشير توما جليليك، النائب السرياني السابق في البرلمان التركي إلى أنه في ظل “عملية المسح المساحي للأراضي والعقارات، والأراضي التي أعطت الدولة التركية مهلة لكل من يريد تسجيل ملكيته، والذي لم يستطيع اللحاق بمدة التسجيل ذهبت ملكيته أوتوماتيكياً لخزينة الدولة، ظهرت شركة توكي المرتبطة بوزارة البناء والبيئة في تركيا، وتتبع للدولة التركية، وهي شركة تهتم بأعمال البناء والأعمار، ثم تبيع المباني، وتعتبر هذه الشركة ذراع تركيا الإعمارية.

ويوضح توما أن غالبية أراضي المهجرين قسراً من تركيا جراء المجازر، استولت عليها الحكومة التركية وأعطتها لهذه الشّركة في إقليم طور عابدين وعدة قرى مختلفة أمثال “آربو، حربثو، بيث قوسطان”، “حالياً نبحث في باقي القرى والمناطق، لنعرف عدد القرى والأملاك التي وضعوا أيديهم عليها”.

ويضيف “سلمت الحكومة التركية الأراضي المسجلة على اسمها لشركة توكي، لتبيعها بعد تسعيرها، كما وتستخدم لأعمال البناء، ولأن الأملاك ليست فقط لشعبنا فكل من يملك أرض أو عقار لم يثبت ملكيته له خلال فترة المسح، وضعت الدولة يده عليه، ونحن نعرف أملاكنا عندما يتم عرضها للبيع في مزاد، وإلى جانب ذلك هناك الكثير من الأراضي والأملاك العائدة لشعبنا والتي لا علم لنا بها”.
وحول كيفية استعادة الملكية يشرح توما أن هناك ثلاث طرق، “الأولى لمدة عشر سنوات يستطيع المتضرر تقديم اعتراض على عملية المسح المساحي للعقارات، وهناك احتمال كبير أنه إذا امتلك شهوداً بحقيقة ملكيته وفتح دعوى، أن يستعيد أرضه”.

وعن الطريقة الثانية والثالثة يوضح “عند مراجعة الدولة وإثبات أن هذا العقار عائد للشخص، وبأنه وعائلته كانوا يعملون بها يستطيع شرائها بمبلغ بسيط وتسجيلها باسمه مرة أخرى، والثالثة هي الأصعب والأسوأ وهي عند سماعه بأن الأرض وضعت للبيع في المزاد يشارك فيه ويشتري الأرض ولكن بمبلغ كبير جداً”.

“بقايا عظام وجماجم”

في إحدى القرى الهادئة تجلس امرأة ترتدي زي تقليدي، تظهر على وجهها تجاعيد ممزوجة بنقوشات ودقات كانت تضعها النّساء فيما مضى للتزين، تروي بدورها لسورويو ما وصل إلى مسامعها من أجدادها، “كان اسم قرية جدي علي قور وعائلته قطنت في قصر كبير بأورفا”.
وتتابع أريفيكا ميناس الأرمنية “كان رئيس القرية كردي واسمه صالح بكر، عندما بدأت المجازر، أخبر جدي بأن ينقلا أغنامهما إلى قريته، التي نسيت اسمها، ونصحه بأن يحتمي هناك هو وعائلته، وبالفعل كان له ما أراد، وكان عمر أبي آنذاك 7 سنوات، وعمي 3 سنوات، وعمتي سنتان”.
وهي تشير بيديها وتحركها محاولةً شرح الموقف كما شرحه والدها تذكر أريفكيا “هربنا إلى سوريا وتحديداً الشّدادي، إلا أن عائلتي اتجهت نحو أرمينيا، والآن في إحدى طرقات الشدادي توجد بقايا حفرة، تشهد على دفن 400 أرمني قتلوهم فترة مجازر السيفو ودفنوهم فيها”.
وتذكر “في أحد الأيام مر المُحافظ حسين حسون وعائلته من شارع الحفرة، وارتطم بها، مما أدى لحادث سير، فأمر بحفرها، وعثر فيها على عظام وجماجم اللذين قتلوا ودفنوا فيها من الأرمن”.
وتكمل “أخبروا أعيان الأرمن بذلك، وبالفعل جاؤوا وأخذوا هذه البقايا وبنوا كنائس في دير الزور، ووضعوها فيها، لتكون شاهدة على ما مر به الأرمن”.
وتعود بنا أريفكيا بالذاكرة إلى ما قبل 100 عام، فتقول “حدثني جدي ذات مرة، أنه كان هناك كنيسة في تركيا، يوجد قبو أسفلها، فترة المجازر وضعوا آلاف الجثث للمسيحيين في القبو وأضرموا فيها النيران، فضلاً عن أن شقيق جدي وابن عمه، لم يعرف مصيرهما حتى الآن، لأن المجازر بدأت بعد أن ذهبا للعسكرية”.
كما وقالت “في إحدى المرات، ذهب أخي إلى تركيا، وأراد أن يرى منزل جدنا، أخبرنا أنه كان هناك كنيسة مهجورة وعلى نوافذها أثر الدخان الذي تصاعد من النار التي أحرقوا بها أهلنا وأخوتنا، ما يزال موجوداً”.
هذا ويوضح سنحريب أن “أثرت بنا هذه الإبادة من نواحي عديدة ديمغرافية، اجتماعية، نفسية، وما يزال أردوغان منذ 20 عاماً، يستعمل سياسة انكار هذه الإبادة، والآن قضيتنا أمام الدولة التركية الوريثة للسلطة العثمانية، وبالفعل السريان يحاولون التحرك على كافة الأصعدة لنيل الاعتراف بهذه القضية، إذ بدأوا بذلك عبر المجلس القومي لبيث نهرين، الذي حقل على اعترافات من دول عدة في العالم بارتكاب تركيا لهذه المجازر، ويستمر بالعمل حتى الاعتراف الكامل بها”.
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، تأسس حزب ما يطلق عليه “حزب بيث نهرين الثوري”، الذي عرف فيما بعد في أواخر التسعينات بـ “التنظيم الثوري لبيث نهرين”، وفي منتصف تسعينات القرن الماضي وصل نشاط التنظيم إلى أوروبا شرقاً وغرباً، ثم تغير اسمه فيما بعد إلى اسم “حزب حرية بيث نهرين”، وفي عام 2005 تغير اسمه ليصبح “المجلس القومي لبيث نهرين”.

“محشرة الهلاك”

وبنظرة حزينة أرهقها ألم واقعة تشتهر ببشاعتها، تقول زيانة رهاوي من مواليد 1908، نجت من المذابح بعد أنّ اتجهت إلى عين ورد “كان لي أخت صغيرة، أخبرنا أبي أن نهرب أنا وهي، بدأنا نبحث عن أمي، صرخت أمي أمي، لكن لم يجبني أحد، رأيتها وهي مصابة بجرح بليغ في صدرها، وكانت ملقاة في الوادي الممتلئ بالنّاس والجثث، مزق والدي ملابسه وأعطاها لجدتي لتغطي جسدها”.

وتضيف “عمتي قُتلت عندما ضيعت طريقها، قدرها المشؤوم ساقها إلى قرية عرنس عوضاً عن عين ورد، فقتلت هناك، واختطفوا بناتها، وحتى اليوم ما تزال ابنتها تعيش كمسلمة في سوريا، وأما أختي رموها بعد أن قتلوها في بئر قرية صالح، وأختي الثانية وأدوها تحت كومة من الحجارة”.

يأمل برصوم أن يكون هناك سلطات تعترف بحقوق المكونات، والأخطاء التاريخية التي ارتكبت، وهذا النّظام الديمقراطي حتى اليوم لم تطبقه تركيا، ولكن هناك طرق وأساليب وضغوط دولية، أو عن طريق مؤسسات الأمم المُتحدة والمُنظمات الحقوقية، لإجبار تركيا على الاعتراف سواء كان في ظلم حكم أردوغان أو غيره”.

توفي العديد ممن نجو من مجازر السّيفو، وتحولت عظامهم المُتحللة إلى بذرة أنجبت زهرة تتكئ الآن على شاهد قبر أحدهم وتعانق الشمس، لتدل على أن هذه القضية مهما حاولت تركيا دفنها في مقابر التّاريخ، ستغرس جذورها وتنبت من تحت الثرى، لتكون كابوساً يؤرق مرتكبيها.

‫شاهد أيضًا‬

سعيد إسحق.. رجل السياسة الذي عبر التاريخ بصمت

في عام 1902، وُلد سعيد إسحق في قلعة الأمراء التابعة لولاية ماردين، حيث نشأ في كنف عائلة سر…