‫‫‫‏‫أسبوعين مضت‬

صيدنايا.. حيث يتجاور القيد مع قدسية الكنائس

ارتبط اسم صيدنايا لدى السوريين بالكثير من الألم والعذاب، كيف لا وقد اختارها النظام السوري الاستبدادي السابق ليطلق اسمها على أعتى سجن من سجونه التي ملأت البلاد شرقاً وغرباً.
سجن صيدنايا العسكري، الاسم وحده كان كفيلاً بذعر السوريين، فالسجن كان موطناً لأنفاس أخيرة لآلاف المعتقلين الذين كانت تهمتهم الوحيدة معارضة النظام، وأحياناً لم تكن كذلك، فيكفي تقرير كيدي من أحدهم، حتى يغيب المعتقل في غياهب السجن إلى ما شاء الله.
عُرفت صيدنايا بأنها أرض المعجزات والغرائب في كنيستها الكبرى المعروفة بكنيسة السيدة، هكذا كانت توصف صيدنايا في كتب التاريخ، أما في ظل حكم الأسد الأبن ومن قبله الأب، فاسم المدينة حاضر في ذاكرة السوريين بقصصهم عن السجن المشؤوم.
وقبل النزاع المسلح الذي دار في محيطها عام ألفين وأحد عشر كانت منطقة صيدنايا تستقبل كل عام أكثر من مليوني حاج مسيحي بحسب الإحصاءات.
صيدنايا بلدة صغيرة على سفوح جبال القلمون شمال شرقي العاصمة دمشق وتبعد منها نحو ثلاثين كيلومتراً، وتمتد سهولها شمالاً حتى سلسلة جبال لبنان الشرقية، وتنتشر على تلالها ومحيطها عشرات الكنائس والأديرة والمقامات، وتضم واحداً من أهم الأديرة المسيحية في العالم.
البلدة مأهولة بالسكان منذ القرن السادس قبل الميلاد على الأقل، عندما كانت تعرف باسمها الآرامي “دانابا” (Danaba)، إذ تشير الآثار الباقية من الكهوف والأماكن القديمة في صيدنايا وحولها إلى أنها كانت مأهولة بحضارات مختلفة من العصر الحجري المبكر، مع وجود قطع أثرية من العصور الآرامية واليونانية والسريانية والرومانية والعربية، وبُني فيها عبر التاريخ العديد من الكنائس والأديرة الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية والسريانية الكاثوليكية والسريانية الأرثوذكسية.
ونظراً إلى موقعها الجبلي المحمي إلى حد كبير تمتعت صيدنايا بالسلام الديني طوال تاريخها حتى في أوقات الحروب، وعلى ارتفاع ألفي متر على قمة أعلى جبل في صيدنايا يتموضع دير شيروبيم (Cherubim) مطلاً على سهول دمشق الخصبة وجبال لبنان.
اتفق علماء السريان على أن اسم “صيدنايا” هو لفظ آرامي الأصل مثل أسماء القرى والبلدان في الشام مثل “صحنايا” و”داريا” و”بيت لاهيا” ولكن اختلفوا في توجيهها، فذهب المطران يوسف داوود إلى أن معناها “الصيداوي” واشتقها غيره من لفظة تعني “محل الأدوية والمستشفى”، ويعتقد أيضاً أن اسم المكان يعني السيدة الجديدة من الكلمة العربية “سيدة” (sayyida) واليونانية “nea” بمعنى جديدة.
ورغم تعدد الروايات حول مرجعية اسم صيدنايا، إلا أن الأرجح في تسمية المدينة ذات اللفظ الآرامي مرده حملها معنى صيد الغزالة وأصلها آرامي، هو ما تشير إليه لوحة فنية كبيرة مثبتة فوق مقام الشاغورة فيها، حتى حملت المدينة صورة الغزال شعاراً ورمزاً لها، والشاغورة هي الأيقونة المقدسة التي يُعتقد بأنها جُلبت من القدس.
في صيدنايا العديد من المواقع التاريخية والدينية التي تحظى باهتمام عالمي واسع، لعل أهمها دير السيدة، ودير الشيروبيم، ودير القديس توما الرسول، ودير القديس جاورجيوس، بالإضافة إلى كنيسة آجيا صوفيا، وكنيسة القديس بطرس، وكنيسة القديس يوحنا، ودير التجلّي، ومقام القديسة تقلا، ومقام القديس خريستوفورس، وكنيسة التجلّي، وكنيسة القديسة وبربارة، ومقام القديس نيقولاوس، ومقام القديس أندراوس، وكنيسة القديس جاورجيوس، ومقام القديس موسى، ومقام القديس سمعان.
كما لا يمكن الحديث عن المدينة بمعزل عن دير سيدة صيدنايا، الذي يعود تاريخ بناءه إلى القرن السادس، إذ بناه الإمبراطور يوستينانوس تنفيذاً لوصية السيدة العذراء ووفقاً لتصميمها الذي وضعته له على الأرض.
في الدير مقام الشاغورة المشهور وهو المكان الذي تولت فيه الغزالة إلى السيدة العذراء، وطلبت من مطاردها الإمبراطور أن يبني لها الدير، وفيه كنيسة جددت بعد فتنة 1860 وقام بهندستها مهندس المريمية بدمشق.
دير سيدة صيدنايا يحوز على مرتبة بالغة الأهمية في العالم المسيحي، ويعد واحداً من أعرق مؤسسات الرهبنة الأرثوذوكسية حيث تتواصل حياة الراهبات فيه من دون أي انقطاع منذ القرن الميلادي الخامس.
الدير شيده الإمبراطور البيزنطي جستينيان الأول عام 547 بعد رؤيتين لمريم، أشارت إحداهما إلى الموقع المقصود للكنيسة.
بينما حددت الأخرى تصميمها، وكرس جستينيان المشروع النهائي في ميلاد مريم العذراء، ويُعاد ذلك سنويًا في 8 ايلول، يصل الحجاج المسيحيون والمسلمون لاحقًا إلى الدير لتكريم سيدة صيدنايا، إذ تعد المحج الثاني بعد كنيسة القيامة في أورشليم من ناحية القدسية والمكانة بالنسبة إلى المسيحيين.
كثرة المباني الدينية في البلدة بغض النظر عن صغرها أو قلة اتساعها هو دليل كافٍ للدلالة على المكانة والشهرة التي بلغتها صيدنايا بين مسيحيي الشرق والغرب، وهي مكانة لم تدركها مدينة أخرى في الشام.
وإلى جانب كل ما سبق، ما زال أهالي البلدة مسلمين ومسيحيين يتكلمون باللغة الآرامية، لغة السيد المسيح، في تفرد نادر يشاركونه مع سكان بلدات أخرى في ريف دمشق وأشهرها معلولا.
ورغم سمعة السجن سيئة الصيت التي طغت في عهد النظام السوري البائد، إلا أن البلدة تبقى منارة تاريخية للتآخي والعبادة”
رغم أن سجن صيدنايا سيء الصيت أصبح رمزًا للمعاناة والقسوة، تظل البلدة شاهدة على التاريخ بروحها العريقة التي تحملها كنائسها وأديرتها، فبينما كان السجن مسرحاً للقتل والتعذيب، ظلت رسالة العبادة والمحبة التي تحملها صيدنايا حاضرة، تُذكر بأن الحياة تستمر، وأن الأمل يمكن أن ينمو حتى في أعتى الظروف.

‫شاهد أيضًا‬

فيلم أيدا شليفر يعرض في سينما غيسن الألمانية

عُرِضَ فيلمُ “الأرواح العابرة” الوثائقي للمخرجةِ “أيدا شليفر” يوم …