الموت البطيء، اضمحلال الهوية وترسّبات الحملة الإيمانية لإنهاء اللغة السريانية
جميل الجميل
لم تنتهِ مظالم المسيحيين الناطقين باللغة السريانية بالإبادات والتمييز العنصري والعزل والقتل فقط، بل تعدّت إلى حرمانهم من ممارسة هويتهم وتقاليدهم بحيث أصبحوا يؤمنون بأنّ جغرافيتهم هي التي تحميهم من البطش المتكرر، حيث يعاني لحد هذه اللحظة أكثر من 100000 مسيحي ومسيحية من الكتابة والقراءة باللغة السريانية والتحدث بها أيضا بسبب حرمان هذه اللغة من التعليم والتداول بها وهي جزء من هويتهم ووجودهم الحضاري والتراثي.
اللغة السُريانية (بالسريانية الشرقية : ܠܸܫܵܢܵܐ ܣܘܼܪܝܵܝܵܐ ، لِشانا سُريايا؛ بالسريانية الغربية: ܠܶܫܳܢܳܐ ܣܽܘܪܝܳܝܳܐ، لِشونو سُريويو)، لغة سامية مشتقة من اللغة الآرامية ويعتبرها بعض الباحثين تطورًا طبيعيًا لها موحدين بين اللغتين، نشأت اللغة الآرامية، وهي أصل اللغة السريانية، في الألف الأول قبل الميلاد لتكون العائلة الثالثة ضمن عائلة اللغات السامية، وأصبحت من القرن السادس قبل الميلاد لغة التخاطب الوحيدة في الهلال الخصيب إلى ما بعد الميلاد، حيث تحورت تدريجيًا واكتسبت اسمها الجديد «اللغة السريانية» في القرن الرابع تزامنًا مع انتشار المسيحية في بلاد الشام، وتعتبر السريانية اللغة الأم لطوائف الآشوريون/السريان/الكلدان المنتشرة بالعراق وسوريا خاصة، حيث أضحت من أهم العوامل التي تجمعهم. وبالرغم من هذا فالسريانية لم تقتصر عليهم فقد استخدمها العديد من رجال الدين المسيحيين في كتاباتهم ، كما أصبحت اللغة الطقسية لبعض القبائل المنغولية المتنصرة قديما ومسيحيو كيرالا بجنوب غرب الهند.
خلال حقب الأنظمة السابقة لم يتم تشجيع الناطقين باللغة السريانية كونها كانت من اللغات المهمة التي يتكلم بها المسيحيون في العراق، حيث تم منعها من التعليم في عهد نظام صدّام حسين في المحافظات العراقية عدا محافظتي أربيل ودهوك حيث كانت تُدرّس اللغة السريانية هناك آنذاك لكن أيضا كانت مقتصرة على بعض المناطق والقرى البعيدة مثال ذلك سرسنك التي حافظت على التداول والتعليم وممارسة اللغة السريانية في المدارس عكس نينوى وبغداد وبابل والبصرة وميسان ومحافظات كان يتواجد فيها المسيحيين، وهذا الحرمان ومنع التداول أدى إلى اندثار هذه اللغة تدريجيا حتّى أصبحت هذه اللغة في مهب الريح لولا حرص الكنائس على التعامل بها في الطقوس الدينية والقداديس والاحتفالات.
منذ عام 1979 بدأ تراجع في تداول وتعليم اللغة السريانية في العراق فلو لاحظنا أنّ المسيحيين الذين كانوا يقيمون في بغداد والموصل والبصرة وميسان وبابل والأنبار لا يجيدون التحدث باللهجة المحكية “السورث” ولا يجيدون التعرف على أحرف اللغة السريانية أو قراءتها أو فهمها، عدا بعض العوائل التي كانت تزور قرى ومناطق سهل نينوى أو قرى ومناطق تواجد المسيحيين في محافظتي أربيل ودهوك، وما زال العديد من المسيحيين العراقيين يعانون مشكلة التحدث باللغة السريانية في عدّة مناطق، وهذا جاء نتيجة سيطرة اللغات المحكية في المناطق التي كان يعيش فيها العرب والأكراد حيث نلاحظ أنّ أغلب المسيحيين يتقنون اللغة العربية لأنّهم فرضت عليهم تعلّمها في المدارس والمؤسسات الحكومية والحياة اليومية وكذلك الكردية في المناطق التي كان يتواجد فيها المسيحيون، ومن هذا المنطلق بدأت اللغة السريانية واللهجات السريانية بالإندثار تدريجيا نتيجة الأوضاع الخاصة التي كان يمرّ بها العراق.
فيما يخصّ حقوق الأقليات تنصّ المادة 27 من العهد الخاص بحقوق الأقليات على أنه لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، أن يحرم الأشخاص من أبناء هذه الأقليات من حق التمتع بثقافتهم الخاصة، أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره، أو استعمال لغتهم، بالاشتراك مع أبناء جماعتهم الآخرين. وتلاحظ اللجنة أن الحق الذي تقره هذه المادة وتعترف به حق يمنح للأفراد المنتمين إلى فئات الأقليات وهو حق متميز وزائد على جميع الحقوق الأخرى التي يحق لهم كأفراد مثل سائر الناس التمتع بها بموجب العهد.
لكنّ هذه الحقوق كانت حبراً على ورق دون أن يتم وضع حلول جذرية لحد هذه اللحظة، وأصبح هناك صعوبة على المسيحيين تعلّم لغتهم وأصبحت هناك حاجة ماسة لتعلم العربية والكردية بدلاً عن السريانية نتيجة الاختلاط وسياسة التعريب والتكريد للمسيحيين في العراق.
يعمل أكد مراد على ترويج اللغة السريانية بمنظور عام في العراق وهو نائب لرئيس إتحاد الأدباء والكتاب السريان يقول ” كان هناك منع تداول الكتب المطبوعة باللغة السريانية وكذلك منع الحديث باللغة السريانية وتعلمّها لسنوات عديدة، وعملنا حتى هذه اللحظة من أجل تعليم اللغة السريانية بكل الطرق والمجالات إلّا أن الدعم الحكومي نراه شبه معدوم في جعل هذه اللغة لغة رسمية يتم تعليمها في مدارس العراق ويتم ادراجها في كافة المؤسسات الحكومية حالها حال العربية والكردية”.
أدى سقوط نظام صدام حسين بعد غزو العراق إلى انتشار مدارس التعليم السرياني في عدة مناطق بشمال العراق وخاصة بمنطقة سهل نينوى ومدينة دهوك وبعض القرى المسيحية في إقليم كردستان العراق، لكنّ هذه المدارس لم تلاقي أيّ دعم من قبل الحكومات واصبحت مجرّد مؤسسات تصدّر البؤس والموت البطيء لهذه اللغة، حيث أصبحت اللغة السريانية لغة شكلية فقط من أجل التباهي الحكومي بها أمام الغرباء!َ فمثلا في محافظة كركوك نرى بأنّ اللغات الرسمية هي التركمانية والكردية والعربية والسريانية لكنّ الدوائر الحكومية لا تشمل اللغة السريانية لغة رسمية! في حين أنّ محافظات إقليم كردستان العراق تستخدم اللغة الرسمية في كافة المعاملات اللغة الكردية وكذلك لا يتم التداول باللغة السريانية في المعاملات الرسمية.
بعد عام 2003!
تعدّ اللغة السريانية من اللغات المهمة السامية وهي اللغة التي تكلّم بها السيد المسيح لهذا تعني هذه اللغة جزءاً مهما من التراث المسيحي وهوية المسيحيين، لكنّ هذه اللغة أصبحت تعاني من الموت البطيء وإندثارها بسبب الأوضاع الاجتماعية والثقافية والتغييرات الديموغرافية التي تهدد حرية الرأي والمعتقد للمسيحيين لآلاف السنوات.
بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 بدأت المراكز الخاصة بتعليم اللغة السريانية والتي تأسست حديثاً لكنّها كانت وما زالت تعاني من ضعف الدعم الحكومي، حتّى أنّ مادة اللغة السريانية التي تم إدخالها في المناهج الدراسية كانت تعاني من تخصيص كوادر لتدريسها وكذلك من الإهتمام بها، ولم يتم إدراج اللغة السريانية في المعاملات الحكومية والمؤسسات الرسمية في حكومتي المركز والإقليم.
عصام ياكو أحد نشطاء اللغة السريانية والذي يروّج لهذه اللغة منذ عام 2003 وحتّى اليوم يقول ” من خلال خبرتنا وجهودنا في هذا المجال بدأنا نلمس بأنّ هناك تحسّن بسيط في تعليم هذه اللغة للناس والطلاب من خلال الدورات التي أقمناها والأنشطة الخاصة باللغة السريانية، لكنّنا طالبنا الجهات الحكومية بالترويج لهذه اللغة لكن لم يكن هناك استجابة، بحيث طالبنا بتأسيس مديرية الثقافة السريانية ومراكز ثقافية وتعليمية سريانية، وما زال الدعم ضئيلا وقليلا حتى هذا اليوم، ولمسنا بأنّ هناك جهات لا تعير لهذه اللغة أية أهمية بحيث أصبح الواقع يروّج للغة العربية هي اللغة الرسمية فقط دون الإهتمام باللغة الأخرى”.
مئات المسيحيين حرموا من لغتهم الأم نتيجة للتشريعات القانونية وأنظمة الحكم التي همّشت الأقليات العراقية ومن ضمنهم المسيحيين، وما زال العديد منهم لا يستطيعون لفظ لغتهم الأم بصورة صحيحة أو حتى البعض منهم لا يفهمونها أصلا كونهم كانوا في مجتمعات تمنع تعلم اللغة السريانية والترويج لها، أو مجتمعات لا تسمح إلّا بالتشدد والتطرف والغاء وجود الآخر.
مستقبل اللغة السريانية في العراق!
تقرأ المؤشرات الكنسية إلى أنّ التهديد الخاص باللغة والهوية مستمر وحجمه يصبح كبيراً يوماً بعد يومٍ، حيث نجد العديد من المسيحيين العراقيين الذين تركوا بلدهم وسافروا إلى البلدان الأخرى بدأوا ينسون لغتهم الأم وخاصة اللهجات المحكية “السورث” وأصبحوا يتأقلمون مع لغات الدول الأوربية والأجنبية، حتّى أنّ الهوية التي كانت مرتبطة باللغة أصبحت تتلاشى تدريجيا، أمّا الموجودين هنا فيروا بأنّ مستقبل هويتهم مجهول فهناك العديد من الأمثلة منها في كافة الأنشطة التي يتم إقامتها لا توجد أية يافطة أو شعار أو جملة مكتوبة باللغة السريانية التي تدعم الوجود المسحي والهوية المسيحية التي قد تساهم بإعادة تفكير المواطن المسيحي بأنّ هناك دعم له أو هناك إهتمام له، سواء كان على الصعيد الحكومي أو المؤسساتي أو على الصعيد الإجتماعي، وهناك انتهاكات يومية تحصل للذين يتحدثون باللهجات المحكية للسريانية “السورث” مثلا تم منع كافة المعلمين والمدرسين من الحديث باللهجة المحكية “السورث” في المدارس التي تحتوي على الطلاب المسيحيين، وكذلك حينما تتحدث عائلة باللغة السريانية في مجتمع يتحدث العربية تبدأ المضايقات والنظرات الغريبة لهم والتي تشعرهم بأنّهم غير مرغوب بهم تضايقهم، والعديد من الصور الحياتية اليومية التي تستمر بمضايقة المواطنين المسيحيين، وهذه كلّها مسببات لإندثار اللغة السريانية وعدم الترويج لها في المجتمع العراقي.
جميل الجميل مدرس سرياني وشاعر وناشط، يعيش في بلدة بغديدا السريانية في سهل نينوى بالعراق.
المجلس الوطني المشرقي يرحب بقرار ترامب برفع العقوبات عن سوريا
دارمسوق (دمشق) – رحب المجلس الوطني المشرقي بقرار الرئيس الأمريكي الخاص برفع العقوبات…