02/03/2025

حنا يعقوب عبدلكي (1877-1955): سيرة رجل صنع التاريخ

المقدمة

في زوايا التاريخ السرياني، تختبئ أسماء أبطال لم يُنصفهم التوثيق الرسمي، رغم تضحياتهم الجسيمة. أحد هؤلاء كان حنا يعقوب عبدلكي، الذي لم يكن مجرد تاجر حرير ناجح، بل قائدًا اجتماعيًا وسياسيًا ساهم في إنقاذ المئات خلال الأزمات، وقاد جهود الإغاثة والتعليم في المجتمع السرياني.

البدايات: من قرية صغيرة إلى تجارة كبرى

وُلد حنا يعقوب عبدلكي في عام 1877 في قرية قلعة مارا، الواقعة بين ماردين ودير الزعفران. نشأ في بيئة زراعية متواضعة، حيث تلقى تعليمه الأولي في مدارس قريته، قبل أن يقرر الانتقال إلى مدينة ديار بكر في سن السادسة عشرة بحثًا عن عمل.

في عام 1893، بدأ حياته المهنية كعامل في مجال النسيج ، وهو قطاع كان يشهد ازدهارًا في ديار بكر آنذاك. بفضل اجتهاده وأمانته، تمكن من بناء سمعة قوية في أوساط التجار، مما مكنه من فتح متجر صغير خاص به. بمرور الوقت، توسع نشاطه، وأصبح متجره من أبرز مراكز بيع الأقمشة والحرير، يتعامل معه تجار من ماردين، بيتليس، سيرت، وفان.

لكن النجاح لم يكن خاليًا من التحديات، إذ اندلع حريق هائل عام 1914 في أسواق ديار بكر، وأتى على العديد من المتاجر، بما في ذلك متجر حنا. رغم هذه الخسارة الفادحة، لم يستسلم، واستطاع إعادة بناء متجره بفضل دعم التجار الذين وثقوا به، وهو ما يعكس سمعته القوية في عالم الأعمال.

في قلب الأزمات: دور إنساني خلال الحرب العالمية الأولى

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، بدأت الإبادة الجماعية للأرمن والسريان والمسيحيين في الدولة العثمانية. أدرك حنا أن وجوده في ديار بكر أصبح محفوفًا بالمخاطر، فقرر العودة مؤقتًا إلى قريته لحماية عائلته. لكنه لم يبقَ هناك طويلًا، إذ عاد بعد ذلك إلى المدينة، وواصل تجارته وسط أجواء الحرب المضطربة.

لم يكن عبدلكي مجرد تاجر يبحث عن النجاة، بل كان رجلاً ذا مسؤولية إنسانية كبيرة. ففي فترة الحرب اليونانية-التركية، بدأ العثمانيون في تجنيد الشباب المسيحيين قسرًا. وهنا لعب عبدلكي دورًا حاسمًا، حيث استخدم نفوذه لإنقاذ مئات الشباب عبر تسجيلهم في وظائف مدنية داخل الجيش بدلاً من إرسالهم إلى جبهات القتال. لكن بعض هؤلاء الشباب هربوا بعد فترة، مما وضعه في موقف حرج أمام السلطات العثمانية، التي بدأت في مراقبته.

إنقاذ اللاجئين وتشكيل لجنة سرية

مع تصاعد العنف، بدأت السلطات التركية في تهجير اليونانيين من مناطقهم إلى ديار بكر. كان هؤلاء المهجرون في أوضاع مأساوية، فقرر عبدلكي تشكيل لجنة سرية لمساعدتهم، ضمت شخصيات بارزة مثل مالك قيصر، سيرك لولو، ومنصور الغمري.

قامت اللجنة بجمع التبرعات سرًا من ديار بكر، ماردين، ومدن أخرى، واستأجرت منازل لإيواء اللاجئين. كان حنا يزورهم أسبوعيًا، أحيانًا برفقة ابنه أنطونيوس، ويوفر لهم الغذاء والملابس، بل وأحضر أطباء لعلاجهم سرًا، رغم مخاطر ذلك

لكن سرعان ما بدأت السلطات التركية في التحقيق حول من يقدم الدعم للاجئين. ومع تضييق الخناق، أدرك عبدلكي أن حياته في خطر، فقرر الهروب إلى سوريا عام 1923، تاركًا خلفه متجره وثروته الكبيرة.

بداية جديدة في سوريا: التحديات والنجاحات

وصل عبدلكي إلى قرية عامودا في سوريا، ومعه مبلغ بسيط لا يتجاوز بضعة ريالات مجيدي وليرة ذهبية واحدة. بدأ حياته من جديد بفتح محل لبيع الخضار والفوكه، لكنه سرعان ما تمكن من العودة إلى التجارة باللأقمسة، وانتقل لاحقًا إلى الحسكة ثم عاد إلى عامودا، ليصبح من أبرز التجار هناك.

عام 1931، واجهت البلاد أزمة تجارية كبيرة، خسر فيها الكثير من التجار أعمالهم. لكن عبدلكي رفض إعلان الإفلاس، وباع جميع ممتلكاته في الحسكة، قامشلي، وعامودا لسداد ديونه كاملة، محافظًا على سمعته الطيبة.

دوره السياسي والاجتماعي: رئيس بلدية عامودا

بفضل ثقة الناس به، تم تعيينه رئيسًا لبلدية عامودا عام 1939. خلال فترة رئاسته، أصر على إصلاح الفساد، وتحقيق العدالة بين جميع الطوائف. لكن الفرنسيين حاولوا استخدامه لتنفيذ مخططاتهم، مثل هدم الجامع الكبير في عامودا لإثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين. رفض عبدلكي ذلك بشدة، مما جعله في مواجهة مباشرة مع السلطات الفرنسية، التي عزلته من منصبه بعد عامين فقط.

إسهاماته الثقافية والتعليمية

لم يكن حنا عبدلكي مجرد رجل أعمال أو سياسي، بل كان أيضًا رائدًا في التعليم والثقافة. أسس أول مدرسة سريانية في الجزيرة السورية (1928-1945) في عامودا وأدارها بنفسه. كما شارك في تحرير مجلة “الجامعة السريانية” التي كانت تصدر في الأرجنتين، وكان ممثلها الرسمي في سوريا ولبنان. كما أصدر كتاب “الصوت السرياني”. ومن أقواله الشهيرة: “إن الأمة تناديكم أيها الشباب، فلبوا النداء، وأصوات آبائكم تنبعث من القبور وتدعوكم إلى الاتحاد والمحبة والنهوض بأمتكم.”

في عام 1953، ورغم تقدمه في العمر، حصل على شهادة في الصحافة من جامعة مصر، وواصل جهوده لنشر الوعي الثقافي بين السريان. قبل وفاته، أسس جمعية محبي اللغة السريانية للحفاظ على اللغة والثقافة السريانية.

الوفاة والإرث

توفي حنا يعقوب عبدلكي عام 1955، بعد حياة حافلة بالنضال والعمل من أجل مجتمعه. أنجب 11 طفلًا، لكن لم ينجُ منهم سوى أربعة: أنطونيوس، عبدالاحد، نسرون، ووردة. بقي في ذاكرة أبناء عامودا وشمال سوريا كرجل شريف، لم يسعَ للسلطة أو الثروة، بل كرّس حياته لخدمة الآخرين.

الخاتمة: إرث لا يُنسى

على الرغم من تهميشه في كتب التاريخ، فإن إرث حنا يعقوب عبدلكي لا يزال حيًا بين أبناء السريان. كان تاجرًا ناجحًا، وسياسيًا نزيهًا، وإنسانًا لم يتردد في التضحية من أجل الآخرين. لعلّ إعادة تسليط الضوء على سيرته تكون خطوة نحو إنصاف أمثاله من الأبطال الذين لم ينالوا حقهم في الذاكرة التاريخية.

‫شاهد أيضًا‬

اكتشاف مدينة تعود لحضارة المايا عمرها ثلاثة آلاف عام في غواتيمالا

غواتيمالا- تُعدّ هذه المدينة واحدةً من أقدم المستوطنات الحضرية التي تم اكتشافها، ويُقدّر ع…