أسطورة بحدي قريو: قائد من رماد التاريخ
في خضم القرن العشرين المضطرب، في ربوع محافظة الحسكة بشمال شرق سوريا، سطع اسم رجل حفر مكانته في ذاكرة الزمن: عبد الأحد ايليا قريو، الملقب بـ"بحدي قريو". زعيم سرياني أرثوذكسي جمع بين القوة والرؤيا، لم تبدأ حكايته وسط ضجيج مدينة الحسكة، بل في أراضي جنوب تركيا المنكوبة، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية تتهاوى.
الفرار من قبضة الموت
انطلقت رحلة بحدي من ويرانشهر، مدينة كانت في يوم ما ملاذًا للسريان، تقع اليوم في جنوب شرق تركيا. في تلك السنوات الأولى من القرن العشرين، اجتاحت مذابح “السيفو” 1915المنطقة، حيث استهدف العثمانيون المسيحيين—أرمن وآشوريين وسريان—بلا رحمة. كان بحدي شيخًا مرموقًا في قومه، لكنه وقع في شرك قاتل. دعا والي المنطقة وجهاء المدينة، من بينهم إخوته الأربعة، إلى وليمة مزعومة. لكن تحت أضواء المائدة، تحركت الخناجر، وسالت الدماء بدلاً من النبيذ. نجا خادم أمين، وهرع إلى دار بحدي صارخًا: “إخوتك ذُبحوا، وأنت الهدف القادم”!
لم يتردد بحدي. ترك الذهب والممتلكات خلفه، وأمسك بيد ماتبقى من عائلته اطفال ونساء ، وانطلق تحت ستار الليل. عبر الحدود إلى سوريا، واستقر في رأس العين، المدينة التي تقابل ويرانشهر، بحثًا عن الأمان في أرض غريبة.
نهضة في رأس العين
في رأس العين، لم يستسلم بحدي لليأس. استلهم ماضي عائلته التجاري—حيث كانوا يتاجرون بالتبغ ويرعون إنارة الشوارع في ويرانشهر—فأقام خانًا صاخبًا بالحياة. كان ملاذًا للمسافرين، حيث يرتاحون وتُعتنى بخيولهم، ومركزًا يزدحم بالناس لشراء حاجياتهم. تحول هذا الخان إلى رمز لقدرته على صنع النجاح من العدم.
مع وصول الفرنسيين إلى سوريا عام 1920، تحت راية الانتداب، احتاجوا إلى من يزودهم بالمؤن لجيشهم. تقدم بحدي، وأصبح مقاولًا يمد الجنود بالخبز والماء والطعام. بفضل ذكائه وثباته، جمع ثروة متواضعة، وبدأ في شراء الأراضي الزراعية، وباشر بعمل الزراعة.
تألق في الحسكة
في عام 1924، قادته طموحاته إلى الحسكة، كان مصيرها أن تكبر. وصل حاملًا بعض المال من رأس العين وحلمًا كبيرًا. كانت الحسكة مزيجًا من السريان والأكراد والعرب والأرمن، أرضًا تحمل تنوعًا وتحديًا. بحدي، الذي يعود أصله إلى أربو ثم قلعة مارا قبل أن تستقر عائلته في ويرانشهر، شعر أن جذوره تمتد إلى هذا التراب.
غاص في عالم التجارة والزراعة، مبتكرًا بلا هوادة. أنشأ طواحين للحبوب، وأفرانًا للخبز، ومصنعًا للثلج عجيبًا في زمن لم يعرف الريف الثلاجات. في الأربعينيات، وبإلهام من ابنه جوزيف، محب الأدب والفنون، افتتح داران للسينما أضاءتا الحسكة بأحلام السينما. ومع شركاء من عائلة لولي، أسس شركة كهرباء أنارت البيوت حتى استحوذت عليها الدولة السورية في 1960. غيّر بحدي وجه الحسكة، وحصد تقدير الجميع.
زعيم يوحد القبائل
لم يكن بحدي مجرد رجل أعمال، بل قائدًا بشخصية ساحرة. رقيق لكنه قوي الحجة، كسب قلوب الجميع. زوجته الأولى، أرمنية نجت من “السيفو” لكنها رحلت بعد عدة اعوام قليلة، ربطته بهذا الشعب المكافح. وزواجه الثاني جعله حلقة وصل بين قبائل المنطقة—السريان والأكراد والعرب والأرمن. جعلته روحه الجامحة رمزًا للوحدة في عالم متشظٍ.
بلغت قيادته ذروتها في الثلاثينيات. حوالي 1933، اختير رئيسًا لبلدية الحسكة، متسلحًا بالحكمة والعزيمة. خوفًا من شبح المذابح، جهّز ميليشيا من شاب السريان من عشيرته القلعة مراوية و بعض من الحلفاء، واصبح حارسًا لشعبه. أطلق عليه الفرنسيون لقب “ثعلب الجزيرة” لمكره السياسي، متلاعبًا ببراعة بين الضباط الفرنسيين والوطنيين السوريين وزعماء العشائر.
رؤية دولة سريانية
في 1936، شهدت الحسكة مغامرة جريئة. تحالف بحدي مع إلياس مرشو، زعيم سرياني و كاثوليكي، وأعلنا حكومة مستقلة بدعم فرنسي. على طراز دولة الموارنة في لبنان، كانت جمهورية يترأسها مرشو ويديرها بحدي قريو كرئيس وزراء. سيطروا على المحاكم والشرطة والإدارة، وحكموا 11 شهرًا. رآها البعض دولة مسيحية، لكن بحدي تخيلها وطنًا قوميًا سريانيًا لأبناء بلاد الرافدين الأصليين.
لكن الرؤية اصطدمت بالواقع. تصاعد الخلاف مع دمشق، التي اعتبرت الحسكة منطقة هامشية. كره الأهالي الولاة القادمين من العاصمة، وفي عملية جريئة، خبئوا رجال بحدي الوالي توفيق شامية، مخبئين إياه في داره. حمل جوزيف ابنه، الذي أتقن الفرنسية في لبنان، رسالة من الوالي إلى أهله في دمشق، مطمئنًا إياهم. أدى ذلك إلى مفاوضات، لكن التوتر بقي.
حكمة الأب وشغف الابن
كان جوزيف، ابن بحدي الأكبر، رفيقه وذراعه الأيمن. تعلم في لبنان، متقنًا الفرنسية والعربية والكردية وبعض السريانية، مزجًا بين حنكة والده ونار الوطنية. تنازعا حول مصير الدولة. قال جوزيف: “لمَ لا نؤسس أمتنا السريانية؟” لكن بحدي، المثقل بذكرى “السيفو” ومذبحة سميل في 1933، رد: “هل سيرضى جيراننا بحكمنا؟ هل نعرض أبناءنا للمزيد من الويلات؟” اختارا بحكمة مريرة حل الدولة، مفضلين العيش المشترك على الانفصال.
الاختبار الأخير
في 1944، مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، زار شارل ديغول الحسكة. استقبله بحدي، وعرض على بحدي إعادة قيام الدولة المسيحية، مقدمًا أسلحة وطائرات ومعسكرات. لكن الرد كان بواسطة الابن جوريف عندما تسلل ليلا، متخفيًا بعباءة عربية، إلى معسكر الفرنسيين، حاملًا رد والده: “لن نقيم دولة طائفية. نريد السلام مع جيراننا.” تأسف ديغول، وعرض على جوزيف الجنسية الفرنسية، لكنه اختار البقاء في سوريا.
خاتمة الثعلب
رحل بحدي قريو كأسطورة، رجل حول الخراب إلى عز، والغربة إلى قوة. أضاءت ابتكاراته الحسكة، وجمعت قيادته قبائلها، وحمت قراراته أهلها من الدمار. مع جوزيف إلى جانبه، خلّف إرثًا من الصبر والصمود—زعيم سرياني أنار دروب عالم ممزق.
اكتشاف مدينة تعود لحضارة المايا عمرها ثلاثة آلاف عام في غواتيمالا
غواتيمالا- تُعدّ هذه المدينة واحدةً من أقدم المستوطنات الحضرية التي تم اكتشافها، ويُقدّر ع…