‫‫‫‏‫4 أسابيع مضت‬

يعقوب قريو: الصحفي والمفكر السرياني الذي حمل شعلة القومية والثقافة

سلسلة عن السريان المؤثرين في تاريخ سورية الحديث

مقدمة

يعقوب قريو، ابن جوزيف السرياني، ليس مجرد اسم في سجلات الصحافة في سوريا والشرق الأوسط ، بل هو رمز للالتزام الفكري والنضال من خلال الكلمة ، بل رمز للالتزام الفكري والنضال بالكلمة. كان صحفيًا جريئًا، ومفكرًا عميقًا، وناشطًا ثقافيًا ترك بصمة لا تُمحى في وعي أمته. حمل مشعل القومية والثقافة في زمن طغت فيه تقييد حرية الكلمة. ومن خلال مقالاته ومؤلفاته ومبادراته الثقافية، أثبت أن الكلمة الحرة قادرة على تغيير الواقع وإحياء الذاكرة الجماعية. 

النشأة والتكوين الفكري

ولد يعقوب قريو في سوريا ضمن بيئة غنية بالتراث الثقافي والاجتماعي، حيث نشأ في أجواء غذّت شغفه بالقضايا الفكرية منذ صغره. عايش حكايات الأجداد عن المآسي التي شهدها الشعب السرياني، مما غرس فيه إحساسًا عميقًا بالمسؤولية تجاه تاريخه وهويته. التحق بجامعة دمشق لدراسة الخدمة الاجتماعية، فاكتسب أدوات تحليلية وإنسانية شكلت رؤيته للمجتمع. لم يكن تعليمه مجرد مرحلة أكاديمية، بل نقطة انطلاق لفهم أعمق للعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، دفعته ليتبنى الصحافة رسالة لا مجرد مهنة. هكذا بدأت مسيرته، مدفوعًا بإيمان راسخ بأن القلم سلاح المفكر في مواجهة الظلم. 

المسيرة الصحفية: صوت الحقيقة 

استهل يعقوب قريو مسيرته الصحفية في أوائل الثمانينيات، حيث كتب مئات المقالات في منابر اللغة العربية ، مثل مجلة “الكفاح العربي”، وصحف “المجد” الأردنية، “عرب اليوم”، “الوطن” الكندية، و”السفير” اللبنانية. كان قلمه سيفًا مسلولًا في وجه الصمت، يتناول القضايا السياسية والاجتماعية والقومية بجرأة نادرة. لم يتردد في طرح الموضوعات الحساسة، بل حولها إلى منصة لتعزيز الوعي المجتمعي وإيقاظ الضمير الجمعي.
تميز أسلوبه بالعمق والتحليل، فلم يكتفِ بالسرد السطحي، بل غاص في جذور المشكلات، مقدمًا رؤى نقدية حول واقع الشرق الأوسط. 

كان صحفيًا ميدانيًا بمعنى الكلمة، ينقل هموم الناس ويعكس آمالهم، مما جعله صوتًا موثوقًا لدى القراء داخل سوريا وخارجها. لم يكن همه الشهرة أو الانتشار، بل التأثير الحقيقي في المجتمع، وهو ما دفعه للاستمرار رغم التحديات التي واجهت الصحافة الحرة في تلك الحقبة. مقدمًا رؤى نقدية  لواقع الشرق الأوسط. 

 دوره الثقافي: إحياء التراث ونشر الفكر 

لم يكتفِ قريو بالكتابة الصحفية، بل سعى لبناء جسور ثقافية تربط الماضي بالحاضر. في عام 1991، أسس دار “عشتروت” للنشر في دمشق، وهي مبادرة ركزت على إحياء الأعمال الفكرية والتاريخية التي طُمست أو أُهملت عبر الزمن. اختار اسم “عشتروت”، رمز الخصوبة والإبداع في ثقافة بلاد ما بين النهرين القديمة، ليعكس رؤيته في إنعاش الفكر. نشرت الدار كتبًا تناولت مواضيع حساسة وجوهرية، وساهمت في إعادة الاعتبار لتراث ثقافي غني كاد يُنسى.
في عام 2001، افتتح فرعًا للدار في بيروت، مما وسّع نطاق تأثيرها، لتصبح منصة تجمع المفكرين والكتاب من مختلف أنحاء بلاد ما بين النهرين والشرق الاوسط. ولم يقف عند هذا الحد، بل أطلق مجلة “إشراقات عشتروت”، التي تحولت إلى منبر للفكر الحر، توزع في اثنتي عشرة دولة بالمنطقة، وتستضيف أقلامًا متنوعة من توجهات مختلفة دون قيود. كانت المجلة مرآة تعكس تنوع فكر الشرق الاوسط ، وفضاءً للحوار البنّاء، مما جعلها واحدة من أبرز الإصدارات الثقافية في سوريا ولبنان والشرق الاوسط، ونقل تاريخ بلاد ما بين النهرين وشعبها السرياني (الآرامي – الكلداني – الآشوري) إلى دول شمال أفريقيا.



الدفاع عن القضية السريانية والهوية القومية 

كان يعقوب قريو من أبرز المدافعين عن القضية السريانية، تلك الشريحة العريقة من الأمة السورية التي عانت ويلات التاريخ. ركز في كتاباته على معاناة السريان في جنوب تركيا، لا سيما خلال مذابح “سيفو” في مطلع القرن العشرين، التي وثقها بدقة وعمق. لم يكتفِ بإثارة هذه القضية، بل سعى لإعادة إلقاء الأضواء على الظلم التاريخي الذي طال هذا الشعب، من تهجير قسري وتعذيب وقتل بأبشع الطرق، مستندًا إلى شهادات الأجداد عن بتر الرؤوس وبقر بطون الحوامل.
آمن قريو بأن القومية السريانية ليست مجرد شعار، بل هوية جامعة تربط أبناء بلاد ما بين النهرين، متجذرة في الإرث الآرامي السرياني. ناضل لترسيخ هذا المفهوم، داعيًا إلى مواجهة محاولات الطمس التي قادها العثمانيون ومن بعدهم أتاتورك. رأى أن سوريا التاريخية تمتد أبعد من حدودها الحالية، وأن الأراضي السليبة، مثل ماردين ونصيبين، جزء لا يتجزأ منها. 

أبرز مؤلفاته الفكرية 

ترك يعقوب قريو إرثًا فكريًا متنوعًا يعكس اهتماماته الواسعة، منها: 
“الانقياد: بكداش والتناقض”: دراسة نقدية عميقة لتجربة الحزب الشيوعي السوري واللبناني، تحلل مواقفه من القضايا القومية والوطنية، وتكشف تناقضات خطابه السياسي. 
“في الخدمة الاجتماعية: الإنسان والعمل الاجتماعي”: كتاب يبرز أهمية العمل الاجتماعي كأداة لبناء مجتمعات عادلة، مستندًا إلى خبرته الأكاديمية. 
“جذور الفكر السوري”: عمل تاريخي وفكري يستعرض التراث السوري وتأثيره في الحضارة العربية، داعيًا إلى إعادة قراءة الماضي بعيون الحاضر. 

موقفه من الأزمة السورية 

مع اندلاع الأزمة السورية في 2011، اتخذ قريو موقفًا متميزًا بالتوازن والموضوعية. لم ينحز لطرف على حساب آخر، بل دعا إلى حل سياسي يحفظ وحدة سوريا ويجنبها التمزق. خصص في كل عدد من “إشراقات عشتروت” ملفًا لمناقشة الوضع، مستضيفًا آراء سياسيين ومفكرين من مختلف الأطياف. كان هدفه البحث عن الحقيقة وتقديم صورة شاملة، بعيدًا عن التعصب أو الانجراف وراء العواطف. 

سوريا التي قضمتها تركيا: رؤية نقدية للتاريخ 

قدم قريو في كتاباته تحليلًا عميقًا لقضية الأراضي السورية السليبة، التي رأى فيها جرحًا تاريخيًا لم يندمل. تحدث عن ماردين، طور عابدين، ديار بكر، الرها، نصيبين، أورفا، وكيليكيا، معتبرًا أن هذه المناطق سُلبت عبر اتفاقيات ظالمة مثل سيفر ولوزان، التي أعادت رسم الحدود لصالح تركيا على حساب سوريا. استند إلى شهادات من عاشوا نهاية الحكم العثماني، موثقًا فظائع التعذيب والتهجير، من بتر الرؤوس بالسيف إلى التمثيل بالجثث واغتصاب النساء.
انتقد بشدة الدور العثماني في تغيير الديموغرافيا السورية، مشيرًا إلى أن تركيا الحديثة، التي أسسها أتاتورك، قامت على أنقاض أراضٍ سورية وأرمنية ويونانية وبلغارية. أشار إلى سرقة التراث الثقافي السرياني، كالموسيقى والمطبخ، التي أُعيد تسميتها بـ”التركية” رغم جذورها السورية. على سبيل المثال، ذكر أن أغنية تركية شهيرة مثل “قرقاردان اندم انس” مستمدة من لحن سرياني قديم للقديس مار أفرام السرياني.
رأى أن السريان لعبوا دورًا حضاريًا عظيمًا في الترجمة والتأليف، لكن أديرتهم ومدارسهم دُمرت أو حُولت إلى إسطبلات في عهد أتاتورك. تساءل بحرقة: “أهذه هي حركة التاريخ التي ظلمت شعوبنا؟”، داعيًا إلى كشف الحقائق ورفض الصمت على هذا الظلم. وأكد أن “إشراقات عشتروت” ستواصل فتح هذه الملفات، لتكون صوتًا للواجب الوطني والقومي. 

الرحيل والإرث الباقي 

في 28 ديسمبر 2013، رحل يعقوب قريو في دمشق بعد صراع مع المرض، تاركًا خسارة كبيرة في الأوساط الثقافية والإعلامية. وصفه صديقه نظام مارديني بأنه “ترجل عن صهوة عشتروته”، حاملًا حزن العام الأخير، لكنه منح خيوط ضوء للمستقبل. كان مكتبه في بيروت ملاذًا للمثقفين، وشارع الحمراء شاهدًا على حضوره. رحل جسدًا، لكن إرثه من مقالات وكتب ومبادرات ثقافية ظل حيًا، يلهم الأجيال. 

خاتمة

يعقوب قريو لم يكن مجرد صحفي أو مفكر، بل رمزًا للشجاعة الفكرية والالتزام القومي. بقلمه، واجه الظلم التاريخي، ودافع عن هوية شعبه، وأحيا الوعي بقضايا أمته. كان صوتًا حرًا لم يخشَ قول الحقيقة، مؤمنًا بأن الكلمة أقوى من أي سلطة. ربما غادر عالمنا، لكن أثره سيظل خالدًا في عقول وقلوب من قرأوا أعماله، تذكيرًا بأن الفكر الحر هو السلاح الأمضى في وجه التعتيم والنسيان. 

‫شاهد أيضًا‬

وفد ألماني رفيع المستوى يزور إقليم شمال وشرق سوريا

زالين (قامشلي) – شمال وشرق سوريا – زار وفد ألماني برئاسة مارغريته ياكوب القائم…