06/04/2025

عائلة أصفر ونجار: رواد الزراعة السورية في رحلة عبر الزمن

سلسلة عن السريان المؤثرين في تاريخ سورية الحديث

على امتداد سهول الجزيرة السورية، حيث تتداخل خيوط الشمس مع خضرة الحقول، تركت عائلة أصفر ونجار بصمة لا تُمحى في سجل الإنجازات الوطنية. هذه العائلة السريانية، التي بدأت مسيرتها في أواخر القرن التاسع عشر، لم تكتفِ بمجرد العيش وسط تحديات الزمن، بل صنعت من الأرض قصة نجاح تحولت إلى رمز للصمود والابتكار، ليس فقط في سوريا، بل في المنطقة بأسرها. 

من المحن إلى الأمل: بدايات العائلة 

تعود جذور هذه الملحمة إلى عام 1895، عندما اجتاحت المجازر المعروفة بـ”سيفو دآمد” منطقة ديار بكر، لتدفع بسعيد نجار إلى الهروب إلى الولايات المتحدة. هناك، أسس مدرسة للأيتام السريان في عام 1899، لكنه عاد في العام التالي إلى ديار بكر، حاملًا معه إرادة قوية لإعادة البناء. في الوقت نفسه، كانت مريم رضوانلي، التي تزوجت من هرموش أصفر في عام 1894 وأنجبت ابنهما مسعود، تواجه مصيرًا قاسيًا بعد فقدان زوجها في تلك الأحداث. لكن القدر جمع بين سعيد ومريم في زواج عام 1901، حيث تبنى سعيد مسعود، محافظًا على اسم أصفر تخليدًا لذكرى والده. من هذا الاتحاد، وُلد عبد المجيد، لطفي، شكري، يعقوب، الياس، وسميرة، لتبدأ حكاية عائلة حملت اسم “أصفر ونجار”. 

استقرار في القامشلي وانطلاقة زراعية 

بعد الحرب العالمية الأولى، ومع تزايد الاضطرابات في تركيا، اختارت العائلة الانتقال إلى القامشلي، حيث استقبلهم المجتمع المحلي، بما في ذلك عشائر طي والحرب والراشد، في لوحة تعكس الوحدة والتضامن. في هذه الأرض الجديدة، بدأت العائلة في استثمار مواردها في الزراعة، فامتدت أراضيها من القامشلي إلى الخابور ورأس العين. بحلول الثلاثينيات، ومع ازدهار القطاع الزراعي في سوريا، أصبحت عائلة أصفر ونجار قوة لا تُستهان بها، حيث ساهمت في رفع إنتاج القمح السوري ليحتل مراتب عالمية متقدمة، بفضل اعتمادها على تقنيات زراعية مبتكرة أدخلتها منذ عام 1936. 

شراكة تحولت إلى ثورة زراعية 

جاءت لحظة حاسمة عندما تعاونت العائلة مع ورثة إبراهيم باشا الملي لاستصلاح أراضٍ شاسعة في رأس العين. باستخدام مضخات مياه عملاقة من نبع عين الزرقاء، وشبكة من القنوات المتقنة، أعادت العائلة الحياة إلى تلك الأراضي، لتصبح مركزًا لإنتاج القمح والأرز. وفي قلب هذا المشروع، شيدوا منزلًا فاخرًا على هضبة تطل على النبع والنهر، محاطًا بحدائق مزهرة، ليصبح شاهدًا على طموحهم وإبداعهم.

شركة أصفر ونجار: ريادة وتأثير 

في الأربعينيات، تأسست شركة “أصفر ونجار إخوان”، التي قادها مسعود أصفر كرئيس، إلى جانب إخوته عبد المجيد، لطفي، شكري، يعقوب، والياس، وانضم إليهم لاحقًا إدوار مسعود أصفر في 1954. تحت هذه القيادة، أطلقت الشركة سلسلة من المبادرات الرائدة: مركز بحوث زراعية، آلات حديثة مستوردة من إيطاليا، محطة رصد جوي في الحسكة، وقناة ري بطول 20 كيلومترًا لري 30 ألف دونم. كما أنشأوا مصنعًا لقشر الأرز في حلب عام 1945، وشركة تصدير نجحت في إرسال مئات الآلاف من الأطنان من الحبوب إلى أوروبا بحلول الخمسينيات، إلى جانب إدخال أنظمة الري بالرش عام 1955.



أثر اجتماعي وسياسي عميق

 لم تكتفِ العائلة بإنجازاتها الاقتصادية، بل سعت لدعم مجتمعها من خلال بناء مدارس ومستشفيات ومراكز شبابية، وساهمت بنسبة كبيرة في تأسيس شركة كهرباء القامشلي. سياسيًا، برز الياس نجار كنائب في البرلمان السوري مرتين (1947 و1954)، وكان له دور في حماية حقوق الفلاحين. ومن إنجازاتهم البارزة، تأسيس قرية مبروكة في رأس العين، التي احتضنت آلاف العائلات، وحملت اسمها تكريمًا لزيارة مار أغناطيوس أفرام الأول برصوم في 1953. 

النهاية المؤلمة: التأميم وفقدان الإرث 

استمر نجاح العائلة حتى الخمسينيات، لكن سياسات التأميم التي بدأت مع الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958 ألقت بظلالها على مسيرتهم. صودر معظم أراضيهم بقوانين الإصلاح الزراعي، ثم جاءت الضربة النهائية في 1966 عندما استولى نظام البعث على جميع ممتلكات الشركة، تاركًا العائلة دون تعويض. تشتت أفرادها، وتحول إرثهم إلى ذكرى، لكن قصتهم ظلت حية في الذاكرة الوطنية. 

خاتمة: إرث يتحدى النسيان

 عائلة أصفر ونجار لم تكن مجرد رواد زراعيين، بل كانت رمزًا للعزيمة والتعاون بين السريان والعرب. حولت الجزيرة السورية إلى مركز غذائي، وأرست معايير جديدة للابتكار الزراعي. ورغم انهيار إمبراطوريتهم تحت وطأة التأميم، يبقى إرثهم شاهدًا على مرحلة مجيدة في تاريخ سوريا، حيث كانت الأرض تعكس أحلام شعب بأكمله.


في هذه السلسلة

يوسف عبدلكي: فنان سرياني تشكيلي يجمع بين الإبداع والالتزام

يعقوب قريو: الصحفي والمفكر السرياني الذي حمل شعلة القومية والثقافة

سعيد إسحق.. رجل السياسة الذي عبر التاريخ بصمت

حنا يعقوب عبدلكي (1877-1955): سيرة رجل صنع التاريخ

أسطورة بحدي قريو: قائد من رماد التاريخ

‫شاهد أيضًا‬

سوريا: مطالبات في السويداء بفتح معبر إنساني لتأمين احتياجات المدنيين

السويداء، سوريا- بعد سلسلة من الاعتداءات التي طالت الأهالي في مدينة السويداء، وجه عدد من ا…