13/04/2025

نوري إسكندر: سفير الموسيقى السريانية الشرقية ومؤرخ تراثها

سلسلة عن السريان المؤثرين في تاريخ سورية الحديث

يُعد نوري إسكندر (1938-2023) أحد أعمدة الموسيقى السورية السريانية، وشخصية استثنائية جمعت بين الإبداع الفني والتوثيق الأكاديمي للتراث الموسيقي الشرقي. وُلد في 25 ديسمبر 1938 في مدينة دير الزور السورية لعائلة سريانية تنحدر أصولها من مدينة أورفا (الرها) التاريخية في تركيا الحديثة، وهي منطقة اشتهرت بكونها مهدًا للثقافة والموسيقى السريانية. في عام 1941، انتقلت عائلته إلى حلب، المدينة التي ستشهد انطلاقته الفنية وتكون مسرحًا لمعظم إنجازاته المبكرة.

بدأ نوري إسكندر رحلته الموسيقية في سن مبكرة، حيث انضم إلى فرقة الكشافة السريانية الأرثوذكسية في حلب، وهناك تلقى أولى دروسه في العزف والتلحين. كانت هذه التجربة بمثابة البذرة الأولى التي أنبتت موهبته، ليبدأ بعدها في استكشاف عالم الموسيقى بجدية أكبر. في الخمسينيات، قرر تعميق معرفته الأكاديمية، فالتحق بالمعهد العالي للموسيقى بجامعة القاهرة بين عامي 1959 و1964، حيث درس تحت إشراف أساتذة بارزين وحصل على بكالوريوس في الموسيقى. هذه الفترة في القاهرة لم تكن مجرد مرحلة تعليمية، بل كانت تجربة غنية فتحت أمامه أبواب الموسيقى الشرقية الكلاسيكية، وأثرت في رؤيته الفنية التي ستجمع لاحقًا بين التقاليد السريانية والأساليب الحديثة.

عند عودته إلى سوريا في منتصف الستينيات، بدأ نوري مسيرته المهنية كملحن وموسيقار، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل اتجه إلى إحياء التراث السرياني الشعبي والديني. في سبعينيات القرن العشرين، أبدع في تأليف مجموعة من الأغاني الشعبية السريانية التي حملت عبق التراث وقوة اللحن الشرقي، مثل “أو حبيبو“، “زليقة فريسي“، و”لا تهفوخ“. هذه الأعمال لم تكن مجرد ألحان، بل كانت تعبيرًا عن هوية ثقافية عميقة، حيث استطاع نوري أن ينقل من خلالها مشاعر الحنين والانتماء للجمهور السرياني والعربي على حد سواء. في عام 1973، شارك في أول مهرجان حديث للموسيقى السريانية في بيروت، حيث تعاون مع الموسيقار اللبناني الكبير وديع الصافي. هذا الحدث شكل نقطة تحول في مسيرته، إذ أظهر قدرته على تقديم الموسيقى السريانية في سياق عالمي، مما جعله رائدًا في هذا المجال.

لم يقتصر دور نوري إسكندر على التلحين، بل امتد إلى التوثيق والتعليم. من أبرز إنجازاته في هذا السياق كتاب “بيت غازو”، وهو عمل موسوعي يضم أكثر من 700 ترنيمة كنسية سريانية مدونة وفق مدرسة الرها التقليدية. هذا الكتاب، الذي استغرق سنوات من البحث والعمل الدؤوب، يُعد مرجعًا لا غنى عنه للدارسين والمهتمين بالموسيقى الدينية السريانية، حيث حافظ على تراث يعود تاريخه إلى قرون مضت، وكاد أن يضيع لولا جهوده. كما أسس نوري عدة جوقات موسيقية في حلب وخارجها، عمل من خلالها على تدريب أجيال جديدة من الموسيقيين على الألحان السريانية، سواء كانت دينية أم شعبية.

امتدت مواهب نوري إلى عالم السينما والتلفزيون، حيث قدم ألحانًا لعدد من الأعمال السورية البارزة. من بينها موسيقى مسلسل “باب الحديد”، الذي عكس الحياة الشعبية في حلب، وفيلم “القلعة الخامسة”، الذي حاز على المركز الثاني في مهرجان دمشق السينمائي الدولي عام 1979. هذه الأعمال أظهرت قدرته على التنوع الفني، حيث استطاع أن يمزج بين الأصالة

الشرقية والتعبير الدرامي المطلوب في السينما. ومن أبرز إبداعاته الموسيقية أيضًا الأوبريت السرياني “فرقانا” (الخلاص)، الذي يروي قصة روحية بأسلوب موسيقي مؤثر، بالإضافة إلى قطعة “صولو عود مع ثلاثي وتري”، وهي عمل كلاسيكي يبرز مهارته في الجمع بين الآلات التقليدية والتوزيع الحديث.



شغل نوري إسكندر منصب مدير معهد الكونسرفتوار الموسيقي في حلب لسنوات، حيث ساهم في تطوير التعليم الموسيقي في المدينة، ورعى مواهب شابة أصبحت لاحقًا جزءًا من المشهد الفني السوري. كان يؤمن بأن الموسيقى ليست مجرد ترفيه، بل وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية ونقلها عبر الأجيال. هذا الإيمان دفعه إلى العمل بلا كلل، سواء في التلحين أو التدريس أو البحث، مما جعله شخصية محورية في المجتمع السرياني والسوري على حد سواء.

مع اندلاع الحرب الأهلية السورية، اضطر نوري إسكندر إلى مغادرة حلب في عام 2014، بعد أن قضى عقودًا في خدمة الفن والثقافة فيها. اختار الاستقرار في السويد، حيث واصل عيشه بهدوء بعيدًا عن الأضواء، محاطًا بأسرته وذكريات مسيرته الطويلة. في 25 ديسمبر 2023، يوم عيد ميلاده الـ85، رحل نوري إسكندر عن عالمنا، تاركًا وراءه إرثًا فنيًا وثقافيًا غنيًا. نعاه محبوه وتلاميذه كـ”سفير الموسيقى السريانية الشرقية إلى العالم”، وكشخصية استثنائية استطاعت أن تحمل صوت التراث السرياني من حلب إلى العالمية، عبر ألحان تحكي قصة شعب وتاريخ عابر للحدود.

إرث نوري إسكندر لم يقتصر على الألحان التي تركها، بل شمل أيضًا دوره كمؤرخ وموثق لتراث موسيقي كاد أن يندثر. أعماله، سواء في الموسيقى الشعبية أو الدينية أو السينمائية، تظل شاهدًا على عبقرية رجل آمن بقوة الفن في الحفاظ على الهوية وإثراء الروح الإنسانية.


في هذه السلسلة

عائلة أصفر ونجار: رواد الزراعة السورية في رحلة عبر الزمن

يوسف عبدلكي: فنان سرياني تشكيلي يجمع بين الإبداع والالتزام

يعقوب قريو: الصحفي والمفكر السرياني الذي حمل شعلة القومية والثقافة

سعيد إسحق.. رجل السياسة الذي عبر التاريخ بصمت

حنا يعقوب عبدلكي (1877-1955): سيرة رجل صنع التاريخ

أسطورة بحدي قريو: قائد من رماد التاريخ

‫شاهد أيضًا‬

ملصق متطرف يثير غضب المسيحيين في طرطوس

طرطوس، سوريا – استيقظ سكان مدينة طرطوس صباح يوم الثلاثاء على ملصق استفزازي عُلق على جدار ك…