اسكندر عزيز: أيقونة الفن السوري السرياني ورمز الإبداع الخالد
سلسلة عن السريان المؤثرين في تاريخ سورية الحديث
يُعد الفنان اسكندر عزيز قولنج واحدًا من أعمدة الفن السوري، حاملاً معه إرثًا سريانيًا عريقًا وموهبة فنية نادرة جعلته رمزًا للإبداع والالتزام. ولد في مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة عام 1937، ونشأ في بيئة غنية بالتنوع الثقافي، حيث تشكلت شخصيته الفنية وسط تفاعل المجتمع السرياني مع الثقافات المحيطة. منذ طفولته، أظهر شغفًا استثنائيًا بالمسرح، وبدأ رحلته الفنية في سن العاشرة، ليصبح لاحقًا أحد أبرز الفنانين الذين أثروا المشهد الثقافي السوري بعمق وأصالة.
النشأة والبدايات: جذور فنية في القامشلي
ترعرع اسكندر عزيز في القامشلي، المدينة التي كانت بمثابة مركز ثقافي نابض في شمال شرق سوريا. في تلك الفترة، كانت الحياة الاجتماعية تعتمد على التفاعل المباشر، وكان المسرح وسيلة للتعبير عن الهموم والأحلام. بدأ اسكندر مع أصدقائه في تنظيم عروض مسرحية بسيطة في الأحياء، حيث كانوا يؤلفون النصوص ويصممون الديكورات ويؤدون الأدوار بأنفسهم. هذه التجارب المبكرة، التي شبهها لاحقًا بـ”المسرح الجوال”، زرعت فيه حب الفن وأعطته الثقة ليواصل السعي وراء شغفه.
في سن المراهقة، بدأ اسكندر يتعمق أكثر في عالم المسرح، حيث شارك في عروض محلية أظهرت موهبته الواعدة. كان يمتلك حضورًا مميزًا وقدرة على التواصل مع الجمهور، مما جعله محط أنظار المقربين والمهتمين بالفن. هذه المرحلة كانت بمثابة المدرسة الأولى التي شكلت أسلوبه الفني، حيث تعلم كيف يمزج بين العفوية الشعبية والتقنيات المسرحية.
الانتقال إلى دمشق: خطوة نحو الاحتراف
في أوائل الخمسينيات، اتخذ اسكندر عزيز قرارًا جريئًا بالانتقال إلى دمشق، عاصمة الفن والثقافة في سوريا. هناك، بدأ يتعاون مع فنانين بارزين مثل سليم حانا وحمدي إبراهيم، الذين كانوا من رواد المسرح السوري في تلك الفترة. هذه التجربة فتحت أمامه أبوابًا جديدة، حيث تعلم تقنيات الإخراج والتمثيل بشكل أكثر احترافية، واكتسب خبرة واسعة في التعامل مع النصوص المسرحية المتنوعة.
خلال هذه المرحلة، عمل اسكندر في المركز الثقافي بالقامشلي لفترة، حيث أخرج ثمانية أعمال مسرحية مستوحاة من روائع الأدب العالمي، مثل مسرحيات شكسبير وموليير، مع إضافة لمسة محلية جعلتها قريبة من الجمهور السوري. هذه الأعمال لم تكن مجرد عروض فنية، بل كانت محاولات لتقديم فن راقٍ يعكس قضايا الإنسان ويحترم خصوصية الثقافة المحلية.
المسرح القومي: ذروة التألق
في عام 1964، انضم اسكندر عزيز إلى المسرح القومي بدمشق، وهي الخطوة التي كرّست مكانته كفنان محترف. خلال هذه الفترة، قدم ما يزيد عن خمسين عملًا مسرحيًا، تنوعت بين التراجيديا والكوميديا والدراما الاجتماعية. كان يمتلك قدرة فريدة على تجسيد الشخصيات المعقدة، سواء كانت شخصيات تاريخية أو شعبية، مما جعله محبوبًا لدى الجمهور والنقاد على حد سواء.
من أبرز الأعمال التي شارك فيها خلال هذه المرحلة مسرحيات تناولت قضايا اجتماعية وسياسية بأسلوب فني راقٍ، مثل “الغريب” المستوحاة من أعمال ألبير كامو، و”الملك لير” لشكسبير. كما شارك في أعمال كوميدية أظهرت خفة ظله وقدرته على إضحاك الجمهور دون الإساءة إلى ذكائهم. هذه الأعمال ساهمت في تعزيز مكانة المسرح القومي كمنصة للفن الهادف.
التلفزيون والإذاعة: صوت الشعب
لم يقتصر إبداع اسكندر عزيز على خشبة المسرح، بل امتد إلى التلفزيون والإذاعة، حيث ترك بصمة واضحة في الإنتاجات الدرامية السورية. شارك في العديد من المسلسلات التي عكست الواقع الاجتماعي السوري، مثل الأعمال التي تناولت الحياة الريفية أو الصراعات العائلية. كان يمتلك قدرة على تقمص الشخصيات بصدق، مما جعل أدواره تبقى في ذاكرة المشاهدين.
في الإذاعة، ساهم اسكندر في تقديم برامج وتمثيليات إذاعية كانت بمثابة نافذة على التراث السوري. أرشيفه الإذاعي يضم مئات الساعات من الأعمال التي تنوعت بين القصص الشعبية والدراما التاريخية، مما عزز من دوره كحافظ للهوية الثقافية السورية. كما شارك في أعمال الدوبلاج، حيث أضفى صوته المميز على شخصيات أجنبية، مانحًا إياها طابعًا محليًا أصيلاً.
السينما العالمية: “دربو دحوبو” والهوية السريانية
في السنوات الأخيرة، حقق اسكندر عزيز إنجازًا سينمائيًا لافتًا من خلال بطولته في فيلم “دربو دحوبو” (طريق الحب)، وهو أول فيلم باللغة السريانية من إنتاج شركة “دربو ميديا برودكشن” الألمانية. تم تصوير الفيلم في ألمانيا وتركيا، وروى قصة حب مؤثرة مستوحاة من التراث السرياني. جسّد اسكندر في الفيلم دور البطولة بأداء عاطفي عميق، حيث استطاع أن ينقل معاناة وأحلام الشعب السرياني بلغة فنية عالمية.
هذا الفيلم لم يكن مجرد عمل سينمائي، بل كان مشروعًا ثقافيًا هدفه الحفاظ على اللغة السريانية وإبرازها على الساحة الدولية. من خلال دوره، استطاع اسكندر أن يعيد إحياء الاهتمام بالتراث السرياني، وأن يوجه رسالة إلى العالم مفادها أن الهوية الثقافية يمكن أن تكون جسراً للتواصل بين الشعوب.
التكريمات: تقدير لمسيرة حافلة
في ديسمبر 2023، احتفى مهرجان المسرح السرياني بمسيرة اسكندر عزيز، حيث كرّم تقديرًا لإسهاماته الاستثنائية في الفن السوري والسرياني. أقيم المهرجان في الفترة من 14 إلى 16 ديسمبر، وشهد حضورًا كبيرًا من الفنانين والجمهور الذين أشادوا بتفانيه وإبداعه. هذا التكريم لم يكن مجرد لحظة احتفالية، بل كان تأكيدًا على أن اسكندر عزيز هو جزء لا يتجزأ من الذاكرة الثقافية السورية.
على مر السنين، حصل اسكندر على العديد من الجوائز والتكريمات من مؤسسات فنية محلية وإقليمية، لكنه دائمًا ما كان يؤكد أن أكبر جائزة بالنسبة له هي محبة الجمهور وتأثيره الإيجابي على حياة الناس.
التأثير الثقافي: حامل راية السريان
اسكندر عزيز ليس مجرد ممثل، بل هو حامل لراية الهوية السريانية في زمن تتعرض فيه هذه الهوية لتحديات وجودية. من خلال أعماله، استطاع أن يحافظ على اللغة السريانية ويروج لها، سواء في المسرحيات التي قدمها باللهجة المحلية أو في الفيلم الذي تحدث باللغة السريا
في هذه السلسلة
نوري إسكندر: سفير الموسيقى السريانية الشرقية ومؤرخ تراثها
عائلة أصفر ونجار: رواد الزراعة السورية في رحلة عبر الزمن
يوسف عبدلكي: فنان سرياني تشكيلي يجمع بين الإبداع والالتزام
يعقوب قريو: الصحفي والمفكر السرياني الذي حمل شعلة القومية والثقافة
سعيد إسحق.. رجل السياسة الذي عبر التاريخ بصمت
طائفة السريان الموارنة في إنشخديه تستعد لشراء كنيسة “سان يانس” التاريخية
إنشخديه، هولندا — تعتزم طائفة السريان الموارنة في مدينة إنشخديه الهولندية شراء كنيسة ̶…