سليم حانا: رحلة الفنان السوري السرياني في عالم المسرح والدراما
سلسلة عن السريان المؤثرين في تاريخ سورية الحديث
يُعدّ سليم حانا (1934-1986) أحد الرموز الفنية البارزة في تاريخ سوريا، حيث كان كاتبًا وممثلًا ومخرجًا مسرحيًا سوريًا ترك أثرًا عميقًا في المشهد الثقافي والفني. كونه سريانيًا من حيث القومية والانتماء الثقافي، وليس فقط كطائفة دينية، حمل سليم هوية ثقافية غنية، مزج فيها بين تراثه السرياني العريق وانتمائه الوطني السوري، ليقدم أعمالًا فنية تحمل رسائل اجتماعية وإنسانية. في هذا المقال المطول، سنغوص في تفاصيل حياة سليم حانا، نشأته، مسيرته الفنية، إسهاماته في المسرح والسينما والتلفزيون، وأثره الدائم كفنان ملتزم يعبر عن الهوية السريانية كقومية متجذرة.
النشأة في القامشلي: جذور الإبداع
وُلد سليم حانا عام 1934 في مدينة القامشلي، إحدى مدن محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا. تُعرف القامشلي بتنوعها الثقافي والقومي، حيث تتعايش فيها مجتمعات عربية، كردية، سريانية، وآشورية، مما جعلها بيئة خصبة للتلاقح الثقافي. كان سليم ينتمي إلى القومية السريانية، وهي إحدى القوميات الأصلية في المنطقة، التي تحافظ على لغتها السريانية وتراثها الثقافي والديني العريق. السريان، كقومية، يمتلكون تاريخًا طويلًا من الإبداع الفني والمساهمات الحضارية، وكان سليم حانا تجسيدًا حيًا لهذا الإرث.
نشأ سليم في بيئة متواضعة، حيث كانت القامشلي في تلك الفترة مدينة زراعية بسيطة، بعيدة عن الأضواء الثقافية التي كانت تتركز في مدن مثل دمشق وحلب. لكن هذه البيئة لم تمنعه من اكتشاف شغفه بالفن. منذ طفولته، أظهر ميلاً واضحًا نحو المسرح، حيث بدأ مسيرته الفنية من خلال المشاركة في العروض المسرحية المدرسية. كانت هذه العروض، رغم بساطتها، بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت فيه حب الفن والتمثيل.
في سن مبكرة، اتخذ سليم قرارًا جريئًا بترك الدراسة الرسمية ليتفرغ للفن، وهي خطوة نادرة في مجتمع محافظ كان ينظر إلى الفن كمهنة غير مستقرة. إيمانه بموهبته وقدرته على التعبير عن هموم الناس، بما في ذلك هموم القومية السريانية، من خلال المسرح، دفعه إلى المضي قدمًا، رغم التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهته.
البدايات المسرحية في القامشلي
في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، بدأ سليم حانا بتشكيل فرق مسرحية محلية متعددة في القامشلي. كانت هذه الفرق تتكون من شباب متحمسين من المدينة، يشاركونه شغفه بالفن وانتماءه إلى الهوية السريانية. تولى سليم كتابة النصوص المسرحية، إخراج العروض، وأحيانًا التمثيل فيها بنفسه، مما جعله رائدًا في الحركة المسرحية المحلية. في تلك الفترة، لم يكن المسرح مجالًا شائعًا في المناطق الريفية مثل القامشلي، حيث كانت الموارد محدودة، والجمهور غير معتاد على هذا النوع من الفنون.
أسس سليم “جمعية أنصار المسرح” في القامشلي، وهي مبادرة تهدف إلى تعزيز الثقافة المسرحية وتشجيع الشباب، وخاصة من القومية السريانية، على الانخراط في الفن. من خلال هذه الجمعية، قدم سليم العديد من المسرحيات التي كانت غالبًا من تأليفه وإخراجه وتمثيله، وتناولت قضايا اجتماعية ملحة، مثل الفقر، الظلم، والصراعات الأسرية، مع إبراز الخصوصية الثقافية السريانية في بعض الأعمال. كانت هذه الأعمال تحمل طابعًا شعبيًا، مما جعلها قريبة من قلوب الجمهور المحلي.
من أبرز مسرحياته في هذه المرحلة مسرحية “سفاك الدماء” (1954)، التي تناولت قضايا العنف والصراعات الاجتماعية بأسلوب درامي مؤثر، مع إشارات خفية إلى التحديات التي تواجهها القوميات الأصلية، بما فيها السريانية. كما قدم أعمالًا أخرى مثل “الخبر الأسود” (1956)، التي ركزت على الصراعات الأسرية، و”على الدروب دماء” (1960)، التي تناولت قضايا سياسية واجتماعية بجرأة. هذه المسرحيات لم تكن مجرد عروض فنية، بل كانت وسيلة لإثارة النقاش وتعزيز الوعي الاجتماعي والقومي.
الانتقال إلى دمشق: مرحلة النضج الفني
في عام 1961، أصبح سليم حانا عضوًا في المسرح القومي السوري في دمشق، وهي خطوة شكلت منعطفًا حاسمًا في مسيرته الفنية. كانت دمشق، كمركز ثقافي وسياسي، تضم حركة مسرحية أكثر تطورًا، خاصة مع تأسيس المسرح القومي عام 1960. شارك سليم في حوالي 72 مسرحية خلال مسيرته مع المسرح القومي، متنوعة بين الدراما الاجتماعية، الكوميديا، والأعمال التاريخية. كان يتميز بقدرته على تقمص الشخصيات المختلفة، سواء كانت شخصيات تراجيدية معقدة أو أدوارًا كوميدية خفيفة. حضوره القوي على خشبة المسرح، إلى جانب صوته المعبّر وأدائه العاطفي، جعله واحدًا من أبرز الممثلين في تلك الفترة.
إلى جانب التمثيل، استمر سليم في كتابة وإخراج المسرحيات، مما عزز مكانته كفنان متعدد المواهب. كانت أعماله في المسرح القومي تعكس رؤية فنية واضحة، تركز على قضايا الإنسان السوري، مع إبراز التنوع القومي والثقافي للمجتمع السوري، بما في ذلك الإرث السرياني. من أبرز الأعمال التي شارك فيها في هذه المرحلة مسرحيات مستوحاة من الأدب العربي والعالمي، بالإضافة إلى أعمال محلية تناقش قضايا الواقع السوري.
إسهاماته في السينما والتلفزيون
لم تقتصر إسهامات سليم حانا على المسرح، بل امتدت إلى السينما والتلفزيون، حيث شارك في عدد من الأعمال التي أظهرت تنوع موهبته. من أبرز أعماله السينمائية فيلم “اللص الظريف”، الذي قدم فيه أداءً مميزًا، يعكس قدرته على الجمع بين الكوميديا والعمق الدرامي. كما شارك في المسلسل التلفزيوني “حمام الهنا”، الذي حظي بشعبية واسعة، حيث أظهر حضورًا قويًا وأداءً طبيعيًا أكسبه إعجاب الجمهور. هذه الأعمال عززت مكانته كفنان شامل، قادر على التألق في مختلف الوسائط الفنية.
دور سليم حانا في تأسيس نقابة الفنانين
لم يقتصر دور سليم حانا على العمل الفني، بل كان ناشطًا في تعزيز مكانة الفنانين وحماية حقوقهم. شارك في تأسيس نقابة الفنانين السوريين، التي أُسست لتكون مؤسسة تدافع عن مصالح الفنانين وتدعم تطوير الحركة الفنية في سوريا. كان سليم من بين الفنانين الذين وضعوا الأسس الأولى لهذه النقابة، التي أصبحت لاحقًا إحدى المؤسسات الثقافية المهمة في البلاد. هذا الدور يعكس التزامه العميق بالفن كرسالة اجتماعية وقومية، حيث آمن بأن الفنان يجب أن يكون صوتًا لمجتمعه، وأن النقابة يمكن أن توفر الدعم اللازم للفنانين، بما في ذلك أولئك الذين ينتمون إلى القوميات الأصلية مثل السريان.
الطابع الاجتماعي والقومي في أعمال سليم حانا
تميزت أعمال سليم حانا بطابعها الاجتماعي الملتزم، حيث كان يركز على قضايا تهم المجتمع السوري، مثل الظلم الاجتماعي، الفقر، الصراعات الأسرية، والتحديات التي تواجه الأفراد في مواجهة التقاليد. كانت مسرحياته بمثابة مرآة تعكس هموم الإنسان البسيط، وفي الوقت ذاته تحمل رسائل إصلاحية تهدف إلى إثارة النقاش وتعزيز الوعي الاجتماعي.
كما كان لانتمائه إلى القومية السريانية تأثير واضح في أعماله. مزج سليم بين الثقافة السريانية والعربية في نصوصه المسرحية، مما أضفى عليها طابعًا فريدًا. على سبيل المثال، كان يستخدم أحيانًا عناصر من الفلكلور السرياني، القصص الشعبية، أو الرموز الثقافية السريانية في أعماله، ليبرز الإرث القومي السرياني كجزء لا يتجزأ من الهوية السورية. هذا المزج الثقافي جعل أعماله جسرًا بين مختلف مكونات المجتمع السوري، معززًا فكرة الوحدة الوطنية.
تجاربه خارج سوريا
لم تقتصر أعمال سليم حانا على سوريا، بل امتدت إلى دول أخرى في المنطقة العربية. في عام 1959، قدم مسرحية “محاكمة عبد السلام عارف” في العراق، وهي عمل جريء تناول قضايا سياسية حساسة. هذه التجربة تُظهر شجاعته الفنية وقدرته على التفاعل مع قضايا المنطقة العربية بأسلوب درامي مؤثر. كما شارك في عروض مسرحية في دول أخرى، مما ساهم في تعزيز حضور المسرح السوري والثقافة السريانية على الساحة العربية.
مؤلفاته المكتوبة والمطبوعة
إلى جانب عمله المسرحي، كتب سليم حانا العديد من النصوص المسرحية التي طُبعت ووزعت، مما يعكس التزامه بتوثيق إنتاجه الفني. من أبرز هذه المؤلفات:
- سفاك الدماء (1954): تناولت قضايا العنف والظلم الاجتماعي بأسلوب درامي قوي.
- الخبر الأسود (1956): ركزت على الصراعات الأسرية والتحديات الاجتماعية.
- على الدروب دماء (1960): تناولت قضايا سياسية واجتماعية بجرأة واضحة.
كما شارك سليم في تأليف كتاب بعنوان “الجزيرة ورجالاتها” بالتعاون مع عثمان رمزي. هذا الكتاب يُعدّ عملًا توثيقيًا مهمًا، يرصد تاريخ منطقة الجزيرة السورية ويسلط الضوء على شخصياتها البارزة، مع التركيز على الدور القومي والثقافي للسريان في المنطقة.
الأثر الثقافي والإرث الفني
توفي سليم حانا عام 1986 بعد معاناة مع المرض، لكنه ترك إرثًا فنيًا وثقافيًا غنيًا يتجلى في عشرات المسرحيات التي كتبها، أخرجها، ومثّل فيها، إلى جانب أعماله السينمائية والتلفزيونية. كان سليم رمزًا للفنان الملتزم الذي يؤمن بأن الفن ليس مجرد ترفيه، بل أداة للتغيير الاجتماعي والتثقيف. أعماله لا تزال تُدرَّس في الدوائر الأكاديمية والثقافية السورية، وتُعتبر جزءًا لا يتجزأ من التراث المسرحي الوطني.
كونه سريانيًا من حيث القومية، ساهم سليم حانا في إبراز التنوع القومي والثقافي السوري، حيث كان جسراً بين الثقافة السريانية والعربية. إسهاماته لم تقتصر على المسرح، بل امتدت إلى تعزيز الحوار الثقافي والاجتماعي في سوريا. كما كان نموذجًا للفنان الذي يجمع بين الخصوصية القومية والانتماء الوطني، مما جعله رمزًا للوحدة في مجتمع متعدد.
سليم حانا والمسرح السوري الحديث
كان لسليم حانا دور ريادي في تطوير المسرح السوري الحديث، خاصة في مرحلة الستينيات والسبعينيات، وهي الفترة التي شهدت ازدهار الحركة المسرحية في سوريا. كان المسرح القومي، الذي كان سليم جزءًا منه، منصة لتقديم أعمال فنية تعكس التحولات الاجتماعية والسياسية في البلاد. من خلال أدواره المتنوعة، ساهم سليم في تعزيز مكانة المسرح كأداة للتعبير عن هوية المجتمع السوري، مع إبراز الإرث القومي السرياني كجزء من هذه الهوية.
كما كان لسليم تأثير على أجيال لاحقة من الفنانين السوريين. العديد من الممثلين والمخرجين الذين عملوا معه في المسرح القومي استلهموا من التزامه وشغفه، مما جعل إرثه يتجاوز جيله إلى الأجيال الجديدة.
خاتمة
سليم حانا ليس مجرد ممثل أو مخرج، بل كان رمزًا للفن الملتزم الذي يحمل رسالة إنسانية وقومية. من شوارع القامشلي المتواضعة إلى خشبة المسرح القومي في دمشق، ومن المسرح إلى شاشات السينما والتلفزيون، حمل معه أحلام الإنسان البسيط وهمومه، ونجح في تحويلها إلى أعمال فنية خالدة. إرثه الفني يبقى شاهدًا على دوره كأحد رواد المسرح السوري، وكفنان سرياني ساهم في إثراء الهوية القومية السريانية والثقافة السورية.
في زمن تتصارع فيه الهويات، يظل سليم حانا نموذجًا للفنان الذي استطاع أن يجمع بين الخصوصية القومية السريانية والانتماء الوطني السوري. أعماله، التي تمزج بين الدراما الاجتماعية والإنسانية، تستمر في إلهام الفنانين والجمهور على حد سواء. سليم حانا لم يكن مجرد فنان، بل كان صوتًا للحقيقة، وجسرًا للتواصل بين القوميات، وبصمة لا تُمحى في تاريخ الفن السوري.
في هذه السلسلة
اسكندر عزيز: أيقونة الفن السوري السرياني ورمز الإبداع الخالد
نوري إسكندر: سفير الموسيقى السريانية الشرقية ومؤرخ تراثها
عائلة أصفر ونجار: رواد الزراعة السورية في رحلة عبر الزمن
يوسف عبدلكي: فنان سرياني تشكيلي يجمع بين الإبداع والالتزام
يعقوب قريو: الصحفي والمفكر السرياني الذي حمل شعلة القومية والثقافة
سعيد إسحق.. رجل السياسة الذي عبر التاريخ بصمت
حنا يعقوب عبدلكي (1877-1955): سيرة رجل صنع التاريخ
أسطورة بحدي قريو: قائد من رماد التاريخ
ملصق متطرف يثير غضب المسيحيين في طرطوس
طرطوس، سوريا – استيقظ سكان مدينة طرطوس صباح يوم الثلاثاء على ملصق استفزازي عُلق على جدار ك…