‫‫‫‏‫4 أيام مضت‬

نور الجزيرة: ملحمة جوزيف بحدي قريو

سلسلة عن السريان المؤثرين في تاريخ سورية الحديث

في أرض الجزيرة السورية، حيث تتدفق مياه الخابور كشريان حياة وتتراقص الرياح بين حقول القمح الذهبية، وصل جوزيف بحدي قريو إلى رأس العين طفلاً في الثانية والنصف من عمره، حاملاً في عينيه بريق الأمل وسط ظلمات المنفى. وُلد جوزيف في ويران شهر بجنوب تركيا، لكنه عانى منذ نعومة أظفاره ويلات المذابح التي عصفت بعائلته. فقد والده بحدي إخوته الأربعة في ليلة خيانة، حين دعاهم الوالي لعشاء كاذب تحول إلى مذبحة. لكن تلك الدماء التي سالت لم تزرع في قلب جوزيف الكراهية، بل أشعلت فيه شعلة التسامح والإصرار على بناء حياة جديدة.

طفولة النار والأمل 

في رحلة الفرار من ويران شهر بعد مذابح سيفو 1915، حمل والده بحدي الطفل جوزيف مع أبناء عمه جرجس وسعيد إلى رأس العين في سوريا. كانت الرحلة مليئة بالخوف، لكن عيني جوزيف الصغير كانتا تتلألآن بوميض الأمل. في رأس العين، بدأت حياته وسط عائلة متماسكة، تزرع الأرض وتحلم بالمستقبل. كان والده، بحدي قريو، زعيمًا محليًا يحمل رؤية لنهضة المنطقة، وكان جوزيف الابن الذي ورث منه الحكمة والطموح. 

في التاسعة من عمره، قرر والده إرساله إلى مدرسة داخلية سريانية في بيروت، في منطقة العطشانة. هناك، انفتحت أمام جوزيف أبواب المعرفة. أتقن اللغة الفرنسية حتى بدأ يكتب المسرحيات بلغة موليير، وعشق العربية فنسج منها قصصًا ومقالات تأسر القلب. كان يقرأ الروايات العالمية، من ديكنز إلى تولستوي، ويغوص في الكتب الفكرية الرأسمالية والاشتراكية والأدب الفرنسي والروسي والعالمي، لكنه لم يكن مجرد قارئ، بل كان حالمًا يرى في الفنون والأدب جسورًا لربط الناس. في المدرسة، تشكلت شخصيته: شاب سرياني مثقف، يعشق المسرح والسينما، ويؤمن أن الثقافة هي سلاح الأمم. 

شباب المقاومة والعطاء 

عاد جوزيف إلى الحسكة في أوائل الثلاثينيات، شابًا يحمل في قلبه إيمان المسيح وروح التسامح، وفي عقله رؤية لنهضة الجزيرة. أصبح اليد اليمنى لوالده، الزعيم بحدي قريو، الذي كان رمزًا للوحدة في المنطقة. ساهم مع والده في تأسيس مدرسة سريانية في الحسكة، حيث تولى جوزيف إدارتها وتعليم الطلاب بنفسه. لم يكن مجرد معلم، بل كان مربيًا يزرع في عقول طلابه بذور الطموح. تحت يديه، تخرج أطباء ومهندسون حملوا اسم الحسكة إلى آفاق بعيدة، ولم يطلب جوزيف يومًا أجرًا، لأنه آمن أن التعليم هو أعظم استثمار. 

في تلك الفترة، كان الانتداب الفرنسي يخيم على سوريا، لكن جوزيف لم يرضَ بالخنوع. انضم إلى “القمصان الحديدية”، جماعة الشباب الوطني التي رفعت شعار المقاومة ضد الانتداب. كانوا يرتدون زيًا رماديًا داكنًا، يحمل شعار مشعل ملتهب، رمزًا للحرية. تدرب جوزيف معهم على الرياضة والقتال، لكنه أضاف إلى قوتهم شيئًا فريدًا: روح التسامح. كان يحوّل الأعداء إلى أصدقاء بابتسامته وكلامه الطيب. حتى عندما عمل كمحاسب للجيش الفرنسي في الحسكة، احترمه الجميع، لأنه كان رجل الحقيقة الذي لا يعرف الكراهية. 

رجل الأرض والفنون 

لم يكن جوزيف مجرد مقاوم أو معلم. كان أمينًا على أموال عائلته الزراعية، يدير الأراضي الشاسعة بحكمة وعدل. كان يعمل في الحقول نهارًا، وفي الليل يغوص في عالم الأدب والفنون. شغفه بالسينما دفعه لإقناع والده بفتح دور عرض في الحسكة وعامودا. كانت تلك الدور بمثابة نافذة لأهل الجزيرة على العالم، حيث شاهدوا أفلامًا تحمل أحلام هوليوود وروائع السينما العربية. في عامودا، أدار جوزيف دار السينما بنفسه، وهناك التقى بحب حياته، ابنة المفكر السرياني حنا عبدلكي. كان زواجهما في عام 1948 قصة حب فكرية وروحية، جمعت بين قلبين يؤمنان بالثقافة والوطنية. 

في عام 1936، عندما أسس والده بحدي قريو دولة الجزيرة مع الياس مرشو، كان جوزيف مشاركًا ومستشارًا ومنفذًا أحيانًا لوالده. وقف إلى جانب والده خلال زيارة شارل ديغول إلى الحسكة، مترجمًا ببراعة ومضيفًا لمسة من الحكمة إلى كل حديث. لم يكن مجرد مترجم، بل كان صوت الحكمة الذي يجمع بين الدبلوماسية والصدق. حتى بعد انتهاء تلك التجربة، بقي جوزيف رجل الوحدة، يحل الخلافات بين القبائل، ويبني جسور المحبة بين العرب والكرد والشركس. 

رحلة العطاء المستمر 

في رأس العين، امتلك جوزيف قرية مع عائلة أرويان، وبنى مطحنة حبوب في نفس القرية. عندما جاء الإصلاح الزراعي واستولت الدولة على أراضي الإقطاعيين، لم ييأس جوزيف. بذكائه، استأجر الأراضي مرة أخرى وزرعها، محافظًا على إرث عائلته. في الوقت نفسه، عمل مديرًا لمشروع بناء صومعة الحبوب في رأس العين، وراقب كل التفاصيل بعين صقر وقلب أمين. 

في عام 1975، ساهم مع أبونا نوح، راهب الكنيسة السريانية، في إعادة فتح مدرسة ابتدائية للسريان في رأس العين، بعد سنوات من إغلاق المدارس السريانية في عهد الوحدة بين سوريا ومصر. كان هذا إنجازًا عظيمًا، أحيا هوية شعبه الثقافية واللغوية. لم يتوقف جوزيف عن العطاء: كان رجل السلام الذي يحل النزاعات بين العشائر، والوسيط الذي يجمع المتخاصمين على طاولة واحدة. كان يملك كاريزما الزعيم، لكنه اختار التواضع، محترمًا زعامة والده حتى بعد وفاته. 

كل صيف، كان جوزيف يركب سيارته من رأس العين إلى حلب، عائدًا بحقيبة مليئة بالكتب: روايات عالمية وعربية، مسرحيات، والكتب الفكرية الرأسمالية والاشتراكية والأدب الفرنسي والروسي والعالمي. كان يوزعها على أبنائه، يغذي عقولهم ويزرع فيهم حب المعرفة. لم يكن أبًا تقليديًا يفرض سلطته، بل كان صديقًا متنورًا، يرد على من يرميه بالحجر بالورد، مبتسمًا، متسامحًا، كأن قلبه لا يعرف إلا الحب. 

وداع الأسطورة 

في 28 أيلول 1989، خبا نور جوزيف بعد صراع طويل مع المرض. لكنه ترك خلفه إرثًا يضيء الجزيرة حتى اليوم. في جنازته، تجمع المئات من كل أطياف المجتمع السوري: عرب وكرد وشركس، مسيحيون ومسلمون، وجهاء وفلاحون، أحزاب وشيوخ قبائل. أكثر من 300 سيارة تبعت موكبه إلى المقبرة، في زمن كانت فيه السيارات نادرة. كان وداعًا يليق برجل عاش لأجل الآخرين، رجل لم يعرف يومًا إلا العطاء. 

جوزيف بحدي قريو لم يكن مجرد رجل، بل كان ملحمة حية. عاش حياة مليئة بالتضحيات، مقاومًا الظلم بالحب، والجهل بالمعرفة، والفرقة بالوحدة. كان نموذجًا للإنسان الذي يحمل في قلبه إنجيل المحبة، وفي عقله رؤية لوطن مزدهر. اسمه، حتى اليوم، يتردد في الحسكة كرمز للكرامة والإنسانية، منارة تذكّر الأجيال أن الحياة تستحق أن تُعاش بقلب مفتوح وعقل مضيء.


في هذه السلسلة

ميادة بسيليس: صوت السريان الأصيل ورائدة الفن السوري

سليم حانا: رحلة الفنان السوري السرياني في عالم المسرح والدراما

اسكندر عزيز: أيقونة الفن السوري السرياني ورمز الإبداع الخالد

نوري إسكندر: سفير الموسيقى السريانية الشرقية ومؤرخ تراثها

عائلة أصفر ونجار: رواد الزراعة السورية في رحلة عبر الزمن

يوسف عبدلكي: فنان سرياني تشكيلي يجمع بين الإبداع والالتزام

يعقوب قريو: الصحفي والمفكر السرياني الذي حمل شعلة القومية والثقافة

سعيد إسحق.. رجل السياسة الذي عبر التاريخ بصمت

حنا يعقوب عبدلكي (1877-1955): سيرة رجل صنع التاريخ

أسطورة بحدي قريو: قائد من رماد التاريخ

‫شاهد أيضًا‬

طائفة السريان الموارنة في إنشخديه تستعد لشراء كنيسة “سان يانس” التاريخية

إنشخديه، هولندا — تعتزم طائفة السريان الموارنة في مدينة إنشخديه الهولندية شراء كنيسة ̶…