تأسيس حزب الاتحاد السرياني
صوت لا يُسكت: رحلة سعيد ملكي
تحت سماء زالين (القامشلي) وفي أرجاء كوزرتو (الجزيرة)، حيث يمتزج عطر الياسمين بأنفاس التاريخ السرياني (الكلداني الآشوري,الارامي)، ولد حلمٌ تجسد في رجلٍ لم يكن قائدًا عاديًا، بل رمزًا للصمود والأمل. سعيد ملكي، ابن أرض بيث نهرين (بلاد مابين النهرين)، نسج بكلماته وتضحياته قصةً لا تزال أصداؤها تتردد في قلوب شعبه. من طفولته في المنفى إلى نضاله في أرض الوطن، كان سعيد شعلةً أضاءت دروب الحرية، حتى حاول النظام السوري إخمادها في لحظةٍ مأساوية لم تُنهِ إرثه، بل جعلته خالدًا.
بدايات مشبعة بالحنين
وُلد سعيد في زالين وفي أرجاء كوزرتو، مهد الحضارة السريانية. لكن الظروف القاسية دفعته وعائلته للهجرة إلى سويسرا وهو في التاسعة من عمره. في شوارع المنفى، كان يستمع إلى حكايات والديه عن بيث نهرين، عن كنائسها القديمة وأناشيدها السريانية التي تحمل روح الأجداد. تلك القصص زرعت في قلبه حنينًا لا يهدأ إلى الوطن. كبر سعيد، تعلم، وعمل، لكن روحه ظلت معلقة بأزقة زالين وفي أرجاء كوزرتو.
في التسعينيات، تعرف سعيد على تنظيم المجلس القومي لبيث نهرين، الذي يحمل راية وحدة السريان (الكلدان، الآشوريين، الاراميين) كأمة واحدة، متمسكةً بهويتها القومية التي اعتنقت المسيحية منذ فجرها. اقتنع سعيد بفكره القومي، الذي يرى في شعبه أمةً متجذرةً في بلاد ما بين النهرين، تستحق الحفاظ على لغتها، تراثها، وحقوقها. هذا الإيمان أشعل فيه شرارة العودة إلى الوطن.
العودة إلى الجذور
في أواخر التسعينيات، عاد سعيد إلى زالين وفي أرجاء كوزرتو، ليس كزائر، بل كمناضلٍ يحمل حلمًا كبيرًا. بدأ رحلته من خلال الجمعية الثقافية السريانية، منصة متواضعة سعت لإحياء التراث السرياني عبر اللغة، الفنون، والتعليم. لكن طموح سعيد كان أوسع. رأى في شعبه أمةً تستحق صوتًا قويًا في المشهد السياسي، فبدأ ينسج علاقات مع شخصيات بارزة من قوميات المنطقة، من كرد وعرب وغيرهم، لبناء تحالفات تدعم قضيته.
بفضل كريزمته وصدقه، أصبح سعيد رمزًا للوحدة. لم يكتفِ بجذب عائلته المباشرة وغير المباشرة إلى التنظيم، بل ألهم مجتمعًا بأكمله. كان يجوب القرى والمدن، يتحدث إلى الفلاحين، المعلمين، والشباب، يحثهم على الحفاظ على هويتهم الآرامية، لغتهم السريانية، وتراثهم الكلداني الآشوري الارامي. “نحن أحفاد من كتبوا التاريخ على ألواح الطين”، كان يقول، فيضيء عيون مستمعيه بالفخر. تأثيره كان عميقًا، حتى أحبه المجتمع السرياني الكلداني الآشوري، واعتنق الكثيرون فكره، متمسكين بأراضيهم وجذورهم في بلاد ما بين النهرين.
مع بداية الألفية، تطور نضال سعيد إلى مرحلة جديدة. شارك في تأسيس حزب الاتحاد السرياني، الذي أصبح صوت السريان (الكلدان، الآشوريين، الاراميين) في شمال شرق سوريا. لم يكن الحزب مجرد تنظيم سياسي، بل حلمًا جمعيًا لشعبٍ يتوق إلى الكرامة. كان سعيد يقود التجمعات في زالين (القامشلي) وفي أرجاء كوزرتو، يتحدث عن التعليم باللغة السريانية، حماية الكنائس والمواقع الأثرية، والمشاركة العادلة في الحياة السياسية. “نحن لسنا ضيوفًا في هذا الوطن، نحن أبناؤه الأصليون”، كان شعاره الذي تردد في كل تجمع.
خطاباته كانت كالنهر الجارف. في إحدى الليالي الباردة بزالين وفي أرجاء كوزرتو، وقف أمام حشدٍ صامت، عيناه تلمعان كنجمتين. “لغتنا هي دماؤنا، تراثنا هو عزتنا”، قال، فاهتزت القلوب وارتفعت الهتافات. كان يستحضر قصص الأجداد الذين صمدوا أمام الغزوات، داعيًا الشباب إلى حمل الراية. “لا تخافوا الظلم، فالنور يولد من الظلام”، كانت كلماته التي تحولت إلى نشيدٍ تردده الأجيال.
رؤية لسوريا الجميع
لم يقتصر نضال سعيد على صوت السريان (الكلدان، الآشوريين، الاراميين). كان يحلم بسوريا ديمقراطية تعددية، تحتضن كل مكوناتها. في تجمعٍ عام بزالين وفي أرجاء كوزرتو، رفع صوته: “لا حرية للسريان دون حرية للكرد والعرب والتركمان. سنبني وطنًا لا يُقمع فيه أحد بسبب لونه أو دينه”. دعا إلى دولة لامركزية تحترم التنوع، متمسكًا بتطبيق القرار 2254 لإطلاق المعتقلين وتحقيق حل سياسي شامل.
على المستوى الدولي، كان سعيد صوتًا لا يُنسى. في مؤتمر حقوقي بأوروبا، وقف أمام ممثلي الأمم المتحدة، وقال: “شعبي ليس مجرد أرقام في تقاريركم، إنه شعب ينزف تحت الظلم. أنتم مسؤولون عن حمايته”. كلماته، التي مزجت بين المنطق والعاطفة، جعلت قضية شعبه تصل إلى العالم، لكنها أيضًا جعلته هدفًا للنظام.
لحظة الاختطاف: اللحظة التي تجمدت
صباح الثاني عشر من أغسطس عام ألفين وثلاثة عشر كان يومًا مظلمًا في زالين وفي أرجاء كوزرتو، السماء كانت ملبدة بالغيوم، كأنها تنبئ بمصيبة. سعيد، بحقيبته البالية التي حملتها رحلاته العديدة، كان يستعد للسفر عبر مطار القامشلي الدولي وفي أرجاء كوزرتو قضى ليلته السابقة في نقاشاتٍ حامية مع رفاقه، يخططون لخطوة جديدة في نضالهم. “سأعود قريبًا، والحلم سيستمر”، قال لصديقه يوسف وهو يودعه، بابتسامةٍ تخفي قلقًا خفيًا.
في المطار، كان الهواء ثقيلًا، مشبعًا بتوترٍ غريب. خطوات سعيد كانت واثقة وهو يسير نحو بوابة المغادرة، يفكر في خطابه القادم. فجأة، اقتحم رجال بزي مدني المكان، وجوههم كالأقنعة الحجرية، عيونهم خالية من الإنسانية. “سعيد ملكي؟”، هتف أحدهم بنبرةٍ حادة كالسكين. لم يتراجع سعيد. رفع رأسه، ونظر إليهم بعينين مشعتين بالتحدي. “أنا هنا”، قال، صوته هادئ كالبحر قبل العاصفة، “لكن صوت شعبي لن تستطيعوا أسره“.
في لحظة، اندفع الرجال نحوه. أمسكوه من ذراعيه بعنف، وسحبوه نحو مخرج جانبي. يوسف، الذي كان يراقب من بعيد، صرخ حتى تصدع صوته: “اتركوه! إنه صوتنا!”، لكن يدٌ قاسية أسكتته. خارج المطار، كانت سيارة سوداء تنتظر كوحشٍ جاهز للانقضاض. دفعوا سعيد إلى داخلها، وانطلقت السيارة مسرعة، تاركةً وراءها سحابة غبار وصرخاتٍ مكتومة. في تلك اللحظة، تجمد قلب زالين وفي أرجاء كوزرتو الأخبار انتشرت كالنار: “اختطفوا سعيد!”، وتحولت الشوارع إلى بحرٍ من الدموع والغضب الصامت.
إرثٌ خالد
اختفى جسد سعيد ملكي، لكن روحه ظلت تحلق فوق زالين (القامشلي) وفي أرجاء كوزرتو مصيره لا يزال مجهولًا، حتى بعد سقوط النظام، لكن إرثه لم يتلاشَ. خطاباته، التي كانت كالنهر الجارف، استمرت تتدفق في قلوب أنصاره. في الاجتماعات السرية لحزب الاتحاد السرياني، كانوا يرددون كلماته: “إذا سُجن الحق، فإنه سينتصر يومًا”. صوره، التي رُفعت في المسيرات، أصبحت أيقونة الصمود. في الشتات، رفع الاتحاد السرياني الأوروبي صوته للمطالبة بكشف مصيره، بينما ردد نوابٌ نداءاته في المحافل الدولية.
في بيوت السريان (الكلدان، الآشوريين، الاراميين)، أصبح سعيد رمزًا لا يموت. الأمهات يروين لأطفالهن: “كان رجلًا جعل الخوف يرتعد أمامه، وضحّى بحياته من أجلنا”. الشباب، المستلهمون من شجاعته، واصلوا نضاله عبر الحزب، متمسكين برؤيته لسوريا ديمقراطية. تأثيره امتد إلى كل فرد في المجتمع السرياني الكلداني الآشوري والارامي، الذين أحبوه واعتنقوا فكره، متمسكين بتراثهم الآرامي وأراضيهم في بلاد ما بين النهرين.
كان سعيد يقول: “إذا زرعنا بذرة، فإنها ستنبت غابة”. وها هي غابته تنمو، تحمل ثمار الكرامة والحرية. حتى اليوم، يظل اسمه محفورًا في القلوب، يُذكر في الليالي الهادئة بزالين (القامشلي) وفي أرجاء كوزرتو، حيث يتردد صدى خطاباته كنشيدٍ لا ينتهي.
خاتمة
في تلك اللحظة المأساوية بمطار القامشلي الدولي وفي أرجاء كوزرتو (الجزيرة)، حاول النظام إطفاء شعلة سعيد ملكي، لكنه أشعل نارًا لا تُطفأ. من طفولته في المنفى إلى نضاله في أرض الوطن، كان سعيد حلمًا، صوتًا، ونبضًا يعيش في كل سرياني كلداني آشوري وارامي، وفي كل سوري يؤمن بالعدالة. تحت سماء زالين وفي أرجاء كوزرتو، حيث بدأت رحلته، يبقى اسمه كنجمٍ لا يغيب، يضيء درب الحرية لأجيالٍ لم ترَ وجهه، لكنها تحمل روحه.
أميركا تعتزم تعيين سفيرها لدى تركيا مبعوثاً خاصاً إلى سوريا
واشنطن- في خطوة تعكس تحولاً لافتًا في سياسة واشنطن تجاه الملف السوري، كشف مصدر دبلوماسي أم…