24/05/2025

دور الثقافة والتقاليد في تشكيل الهوية: حالة الآشوريين والمَحْلَميين

منطقة محلمويتو (أحلامو أو بيث أحلام — ܒܝܬ ܡܚܠܡ) هي الاسم الذي يُطلق على المنطقة الواقعة في الجزء الغربي من طور عبدين. يُطلق على سكانها اسم المحلمي، أو المحلميين، أو المحلمويي. في هذه السلسلة، يصحبنا الصحفي ومقدم البرامج في قناة سورويو تي في، دنحو بار مراد-أوزمن، في رحلة تاريخية عبر هذه المنطقة السريانية العريقة.

بقلم: دنحو بار مراد-أوزمن | صحفي ومقدم برامج في قناة سورويو تي في


بالنسبة لشعوب لا دولة لها وغالبًا ما تكون مُهجّرة، كالشعب الآشوري والمَحلَميين (المَحْلَميِّة)، تمثل الثقافة والتقاليد أكثر من مجرد علامات هوية؛ إنها أدوات للبقاء. فهؤلاء القادمون من بلاد ما بين النهرين القديمة وجنوب شرق تركيا على التوالي، تعرضوا لقرون من الاضطهاد، والتهجير القسري، وضغوط الاندماج. ورغم ذلك، حافظوا على تراث ثقافي غني من خلال التقاليد واللغة والفولكلور والموسيقى. تستعرض هذه المقالة كيف تساهم هذه العناصر في تشكيل والحفاظ على هوية الشعبين الآشوري والمحلّمي في ظل الشتات والآثار التاريخية المؤلمة.

الأسس الثقافية للهوية

تستند الهوية الآشورية إلى واحدة من أقدم الحضارات في العالم، إذ تعود جذورها إلى ما يزيد عن أربعة آلاف عام في الإمبراطورية الآشورية ببلاد الرافدين. وتتجسد ثقافتهم في اللغة الآرامية (المنحدرة من اللغة الأكادية القديمة)، والانتماء المسيحي (خاصة الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، والكلدانية الكاثوليكية، وكنيسة المشرق الآشورية)، إلى جانب ارتباط عميق بالأراضي التاريخية في العراق وسوريا وتركيا وإيران.

أما المَحلَميون، فهم مجموعة متميزة من منطقة طور عبدين جنوب شرق تركيا، تجمعهم روابط لغوية وثقافية بكل من التقاليد الكردية والآشورية. ويعتنق كثير منهم الإسلام، مع الحفاظ على صلات ثقافية بأسلافهم من المسيحيين السريان وبالتراث الرافديني، ما يخلق هوية متعددة الطبقات ومعقدة.

وبالنسبة لكلتا المجموعتين، تصبح الثقافة شكلاً من أشكال المقاومة. ففي مجتمعات الشتات، يسهم الحفاظ على اللغة، والمأكولات، والحرف، والعادات الدينية في ترسيخ الهوية عبر الأجيال. وتلعب الجمعيات الثقافية والمنصات الرقمية دورًا محوريًا في هذا النقل الثقافي.


خريطة مُعدّلة تتضمن منطقة ماهالمايتو وبيت ريشو. (صورة: ويكيميديا ​​كومنز)

التقاليد: رابط مع الأجداد

تُعد التقاليد مثل رأس السنة الآشورية (آكيتو)، ومراسم الزواج، والمناسبات الدينية، جسورًا حية تربط الماضي بالحاضر. وبالنسبة للآشوريين، تربط الطقوس الليتورجية باللغة السريانية الكلاسيكية المؤمنين المعاصرين بالممارسات المسيحية المبكرة. بالمثل، يحتفظ المَحلَميون بتقاليد شفوية وعادات تتعلق بالعائلة والتسلسل المجتمعي والمواسم.

لا تقتصر هذه التقاليد على حفظ التاريخ، بل تساهم أيضًا في توحيد المجتمعات المتفرقة في المهجر. ففي مدن مثل سودرتاليا (السويد)، وشيكاغو (الولايات المتحدة)، وبرلين (ألمانيا)، تساعد التجمعات والطقوس التقليدية في الشتات على تعزيز الهوية وتوطيد التضامن.

الظروف المعيشية: التهجير والتكيف

شهد كل من الآشوريين والمَحلَميين تحولات جذرية في ظروفهم المعيشية نتيجة الاضطرابات السياسية، والتطهير العرقي، والتهجير القسري. فقد أدى الإبادة الجماعية للآشوريين (السيفو) خلال الحرب العالمية الأولى، وحرب العراق، وصعود تنظيم داعش، إلى تهجير مئات الآلاف. كما واجه المَحلَميون التهميش في تركيا وسوريا، مما دفع أعدادًا كبيرة منهم إلى الهجرة نحو أوروبا.

وقد أعادت هذه الأوضاع تشكيل هوياتهم. ففي بلدان المهجر، ينشأ الجيل الجديد في ظل واقع ثقافي مزدوج. وتشكل ضغوط الاندماج، وفقدان اللغة، والفجوات بين الأجيال تحديات، ولكنها تمثل في الوقت ذاته فرصًا لإعادة تعريف الهوية وتعزيز القدرة على الصمود.

الفولكلور: حاملو الذاكرة الجمعية

يتميز الفولكلور الآشوري والمَحلَمي بوفرة الأساطير والأمثال والحكايات البطولية التي تعكس التجارب التاريخية، والتعليم الأخلاقي، والقيم المجتمعية. وتُعد هذه القصص وسيلة لحمل الذاكرة الجماعية، حيث تنقل روايات عن الصمود، والبطولة، والحنين إلى الوطن.

تركز الحكايات الشعبية الآشورية غالبًا على الحياة القروية، والاستشهاد، والقديسين المسيحيين، في حين تتناول الرواية الشفوية المَحلَمية قصص الهجرة، والشرف، والنجاة في المناطق الحدودية. وتُنقل هذه القصص عبر أمسيات السرد، والشعر، ومنصات التواصل الاجتماعي والمنشورات في الشتات.



الأغاني: تعبير عن الغربة والانتماء

تحتل الموسيقى مكانة مركزية في هوية كل من الآشوريين والمَحلَميين. تتناول الأغاني الآشورية غالبًا مواضيع الغربة، والحنين، والإيمان. وقد حافظ فنانون مثل سركون جبرائيل وليندا جورج على الروح الآشورية من خلال المزج بين الآلات التقليدية والتوزيعات الحديثة. وتحمل كلمات الأغاني بالآرامية الحديثة (السوريث) وقعًا عاطفيًا عميقًا لدى المستمعين الذين يشعرون بانفصالهم عن أوطانهم الأصلية.

أما التقاليد الموسيقية المَحلَمية، ورغم أنها أقل توثيقًا، فتشمل أغانٍ شعبية تُؤدى باللغات العربية أو الكردية أو التركية، ما يعكس تراثهم المتعدد. وتتناول هذه الأغاني مواضيع الحب، والهجرة، والنضال الجماعي. وفي بيئات المهجر، تصبح الموسيقى أداة حيوية للتعليم الثقافي وتعزيز التماسك المجتمعي.

الخاتمة

بالنسبة لشعوب مهمشة ومشتتة مثل الآشوريين والمَحلَميين، فإن الهوية ليست إرثًا سلبيًا بل فعلًا واعيًا ومستمرًا من الحفظ والتكيّف. تشكل الثقافة، والتقاليد، والظروف المعيشية، والفولكلور، والموسيقى الخيوط التي تنسج هذه الهويات وتبقيها حيّة، رغم تلاشي الصلة الجغرافية بالوطن.

ومن خلال تكريم هذه العناصر، لا تكتفي هذه المجتمعات بمقاومة المحو، بل تؤكد أيضًا على وجودها ودورها في الفسيفساء الثقافية العالمية. وتجسد تجربة الآشوريين والمَحلَميين كيف يمكن للهوية أن تتشكل، وتُختبَر، وتبقى؛ فهي متجذرة في الماضي، وتُعاش في الحاضر، وتُعاد صياغتها من أجل المستقبل.


المراجع:

Donabed, S. G. (2015). Reforging a Forgotten History: Iraq and the Assyrians in the Twentieth Century. Edinburgh University Press. 

Gaunt, D. (2006). Massacres, Resistance, Protectors: Muslim-Christian Relations in Eastern Anatolia during World War I. Gorgias Press. 

Joseph, J. (2000). The Modern Assyrians of the Middle East: Encounters with Western Christian Missions, Archaeologists, and Colonial Powers. Brill. 

Biner, Z. O. (2011). States of Dispossession: Violence and Precarious Coexistence in Southeastern Turkey. University of Pennsylvania Press. 

BetBasoo, P. (2021). “The Assyrian Identity and Cultural Survival in the Diaspora.” Journal of Assyrian Academic Studies, 35(1), 25–42. 

Turino, T. (2008). Music as Social Life: The Politics of Participation. University of Chicago Press. 

‫شاهد أيضًا‬

هجوم مميت على كنيسة مار إلياس التاريخية أثناء القدّاس يسفر عن مقتل 22 شخصًا وإصابة العشرات

دارمسوق (دمشق) — هزّ تفجير انتحاري، يوم الأحد، كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس، إحدى أقدم …