كبرئيل أسعد: رائد الموسيقى السريانية وصوت الهوية
سلسلة عن السريان المؤثرين في تاريخ سورية الحديث
في أزقة مدياد العتيقة بمنطقة طورعبدين، ولد كبرئيل أسعد في الثامن عشر من آذار عام 1907، ليصبح لاحقًا واحدًا من أعمدة الموسيقى السريانية في القرن العشرين. لم يكن كبرئيل مجرد موسيقار أو ملحن، بل كان صوتًا لشعب، حاملًا لتراثه وهويته، مزج في ألحانه بين الروح الشرقية والنفحات الغربية، ليخلق إرثًا موسيقيًا خالدًا لا يزال يتردد صداه حتى اليوم.
بدايات مشحونة بالترحال والإلهام
لم تكن طفولة كبرئيل مستقرة، فقد انتقلت عائلته عام 1914 إلى مدينة أضنة، حيث بدأت رحلته مع الموسيقى. في المدرسة السريانية هناك، تعلم أصول اللغات السريانية والتركية والفرنسية، وغاص في عالم الأناشيد التراثية التي امتزجت فيها الألحان السريانية مع النكهات التركية والأرمنية. كانت تلك السنوات بمثابة البذرة الأولى التي أنبتت شغفه بالموسيقى، وخاصة ألحان الكنيسة السريانية التي شكلت لاحقًا مصدر إلهامه الأعمق.
مع نزوح عائلته إلى طرابلس اللبنانية، ثم حمص، وأخيرًا دمشق، بدأ كبرئيل يشق طريقه نحو احتراف الموسيقى. في دمشق، تلقى دروسًا في العزف على الكمان على يد أستاذ أرمني، فأتقن الآلة وصقل موهبته. لم يكن الكمان مجرد أداة عزف بالنسبة له، بل كان صوتًا يعبر عن جذوره وتاريخه، يحمل في طياته أنغام الكنيسة وروح الشعب السرياني.
رحلة الإبداع: من بيروت إلى فلسطين
في عام 1926، انتقل كبرئيل إلى بيروت، حيث أطلق العنان لموهبته الموسيقية بتأليف أولى أعماله القومية. كانت ألحانه تحمل رسالة واضحة: الحفاظ على الهوية السريانية واللغة والتراث. من بيروت، توجه إلى فلسطين، حيث شهدت أعماله نقلة نوعية. هناك، خلّد ذكرى مذبحة سميل عام 1937 بمقطوعات موسيقية مؤثرة، وأنتج أول أسطوانة سريانية في تاريخ الشعب، تضمنت نشيدين قوميين، ليضع بصمته كرائد في توثيق الموسيقى السريانية.
زالين (القامشلي): قلب النبض الموسيقي
في الخمسينيات، استقر كبرئيل في مدينة زالين (القامشلي) السورية، حيث بلغت مسيرته ذروتها. تولى رئاسة قسم الموسيقى في المركز الثقافي، وأسس مدرسة موسيقية أصبحت منارة لتعليم الموسيقى السريانية. تحت إشرافه، تتلمذ موسيقيون بارزون مثل القسيس جورج شاشان وجوزيف ملكي، مما جعل زالين (القامشلي) مركزًا ثقافيًا نابضًا بالحياة. في تلك الفترة، أصدر كبرئيل كتابه الأول “من أناشيدنا السريانية الحديثة” عام 1953 في حلب، والذي ضم 16 نشيدًا من أشعار كبار الشعراء السريان، ليصبح مرجعًا أساسيًا في الموسيقى القومية.
مزيج الشرق والغرب
تميزت ألحان كبرئيل بأسلوب فريد جمع بين الطابع البيزنطي الساحر والتأثيرات الغربية. كان مولعًا بالموسيقى الشرقية والغربية على حد سواء، فمزج بينهما ببراعة ليخلق ألحانًا قومية تحمل طابعًا عالميًا. حتى في سنواته الأخيرة، بدأ يستكشف ألحانًا غزلية باللهجة السريانية الشعبية (الرهاوية)، مضيفًا بُعدًا جديدًا إلى إرثه.
في عام 1974، أصدر في بيروت أسطوانة تضمنت أغنيتين من تلحينه، عكستا عمق رؤيته الموسيقية. لم يكن كبرئيل يلحن فقط، بل كان يعيش القصائد التي يختارها، يدرس معانيها بعمق، ويمنحها ألحانًا تتناسب مع روحها، سواء كانت حماسية أو حزينة.
السويد: الإرث الأخير
في عام 1979، هاجر كبرئيل إلى السويد، حيث واصل مسيرته الإبداعية. هناك، أصدر كتابه الثاني “الموسيقى السريانية عبر التاريخ” عام 1990، وهو عمل موسوعي تناول فيه أصول المقامات الموسيقية في بلاد ما بين النهرين، واكتشافه اللافت للسلم الموسيقي السرياني القديم الذي كان مفقودًا. هذا الاكتشاف، الذي قدمه في مؤتمر السريانيات الخامس في بلجيكا، عزز مكانته كباحث ومؤرخ موسيقي، إلى جانب كونه ملحنًا.
لم تقتصر إسهاماته على الموسيقى، فقد ألف كتبًا تاريخية عن السريان، مثل “تاريخ الملوك الآباجرة السريان” و”السريان ومشاكلهم الدينية”، مما يعكس شغفه بالحفاظ على الهوية السريانية بكل أبعادها.
إرث خالد
يقول الدكتور أبروهوم لحدو، الذي عاصره: “شعر كبرئيل بنقص في الألحان السريانية الأصيلة، فأخذ أشعار كبار الشعراء مثل يوحانون دولباني ودنحو مقدسي الياس، ومنحها ألحانًا جديدة أصبحت أساسًا للغناء الكلاسيكي السرياني.” عشرات الأغاني التي ألفها بين 1926 و1960 لا تزال تُغنى حتى اليوم، كشاهد على عبقريته.
رحل كبرئيل أسعد في السويد يوم 6 تموز 1997 عن عمر 90 عامًا، تاركًا إرثًا موسيقيًا وثقافيًا لا يُمحى. ابنه، الموسيقار سردانبال أسعد، وثّق أغانيه التراثية لتبقى هدية للأجيال. كبرئيل لم يكن مجرد موسيقار، بل كان حارسًا للهوية السريانية، مزج في ألحانه بين الحنين إلى الجذور والطموح نحو العالمية، ليبقى اسمه محفورًا في تاريخ الموسيقى السريانية كرائد حقيقي وأبٍ للأغنية الحديثة.
في هذه السلسلة
ميادة بسيليس: صوت السريان الأصيل ورائدة الفن السوري
سليم حانا: رحلة الفنان السوري السرياني في عالم المسرح والدراما
اسكندر عزيز: أيقونة الفن السوري السرياني ورمز الإبداع الخالد
نوري إسكندر: سفير الموسيقى السريانية الشرقية ومؤرخ تراثها
عائلة أصفر ونجار: رواد الزراعة السورية في رحلة عبر الزمن
يوسف عبدلكي: فنان سرياني تشكيلي يجمع بين الإبداع والالتزام
يعقوب قريو: الصحفي والمفكر السرياني الذي حمل شعلة القومية والثقافة
سعيد إسحق.. رجل السياسة الذي عبر التاريخ بصمت
بمناخ إيجابي، انعقاد الجولة الأولى من المفاوضات بين الإدارة الذاتية الديمقراطية والحكومة السورية في دارمسوق
دارمسوق – عقدت يوم الأحد في العاصمة دارمسوق (دمشق) أول جولة مفاوضات رسمية بين وفد الإدارة …