شعب في مرمى النيران: سهل نينوى، مطالب الحكم الذاتي الآشوري والانقسام الداخلي
بقلم: دنحو بار مراد-أوزمن | مربي خاص ومستشار سابق في الوكالة الوطنية السويدية للتربية الخاصة
مقدمة
يُعد سهل نينوى في شمال العراق أحد أكثر المناطق حساسية تاريخيًا في الشرق الأوسط. ففي هذه الأرض، موطن الشعب الآشوري، بقيت بعض أقدم المجتمعات المسيحية في العالم رغم قرون من الاضطهاد والتهميش. وبعد اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عام 2014، عادت مسألة مستقبل الآشوريين إلى الواجهة – بمطالب بالحكم الذاتي، ولكن أيضًا مع تعمق الانقسام الداخلي بين أبناء هذا الشعب. تستعرض هذه المقالة المطالب الآشورية بالحكم الذاتي، والانقسامات السياسية والكنسية داخل المجموعة، وكيف تؤثر هذه الديناميكيات على إمكانية بناء مستقبل مشترك في العراق.
سهل نينوى – مركز تاريخي في حالة خراب
يمتد سهل نينوى شرق مدينة الموصل، في محافظة نينوى العراقية. يقطن هذه المنطقة عدد من المجموعات الدينية والإثنية، ولكن يبرز من بينها السكان الأصليون من المسيحيين – الآشوريين. تعود جذورهم في المنطقة إلى الحضارة الآشورية القديمة، التي كانت مراكزها في نينوى ونمرود. وخلال القرن العشرين، تعرض الآشوريون لعدة موجات من الاضطهاد شبيهة بالإبادة الجماعية، خاصة في ظل الإمبراطورية العثمانية ونظام صدام حسين.
اليوم، تُقسم السيطرة على سهل نينوى بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان (KRG)، مما يعقّد أكثر نضال الآشوريين من أجل الاعتراف والحماية. وعلى الرغم من ذلك، بدأ الشعب الآشوري بعد عام 2003 بالمطالبة مجددًا بالحكم الذاتي الدستوري وفق المادة 125 من الدستور العراقي، التي تمنح الأقليات الحق في الحكم الثقافي والإداري الذاتي.
الغزو الأمريكي والانقسامات السياسية
منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، تحولت منطقة سهل نينوى إلى منطقة رمادية سياسيًا، حيث تتنازع أطراف متعددة على السيطرة الإدارية والعسكرية. وقد وقع الآشوريون، على وجه الخصوص، ضحية لصراع القوى بين الحكومة العراقية المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل. كلا الطرفين أعلنا مرارًا دعمهما للوجود الآشوري وحقوقه التاريخية، لكن غالبًا ما كان هذا الدعم ذا طابع سياسي يخدم مصالح الطرفين في توسيع نفوذهما.
الحكومة العراقية أظهرت أحيانًا مواقف سلبية تجاه المنطقة، وهو ما فسره الكثير من الآشوريين كتعبير عن تهميش هيكلي. في المقابل، اتبعت حكومة إقليم كردستان سياسة أكثر فاعلية من خلال ضم القرى والمجتمعات الآشورية تدريجيًا تحت سيطرتها الإدارية والأمنية، الأمر الذي أثار مخاوف من سياسة استيعاب صامتة.
هذا الصراع انعكس أيضًا في المشهد الحزبي الآشوري. فبينما حاولت بعض الأحزاب، مثل الحركة الديمقراطية الآشورية (ADM)، تبني موقف متوازن بين الطرفين، إلا أنها مالت في الواقع نحو بغداد. في المقابل، أقامت جهات سياسية أخرى مثل “المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري” علاقات وثيقة مع حكومة إقليم كردستان وحزبها الحاكم (KDP). هذه التحالفات أثارت انتقادات داخلية واسعة بين الآشوريين، الذين يرون أن حقوقهم الوطنية يتم التخلي عنها مقابل مكاسب سياسية واقتصادية.
اجتياح داعش وصراع البقاء
أدى اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية لمدينة الموصل في صيف عام 2014، والهجوم على سهل نينوى، إلى تهجير أكثر من 120 ألف آشوري. دُمّرت الكنائس والمدارس والمنازل، وفُرغت مدن مثل قرقوش وبرطلة وتلكيف من سكانها. وقد سحب البشمركة الكردية، التي كانت قد وعدت بحماية هذه القرى، قواتها من المنطقة أمام تقدم داعش، ما اعتبره الآشوريون خيانة متعمدة.
أثار هذا الوضع دعوات متزايدة من قبل منظمات آشورية لتأسيس منطقة ذات حكم ذاتي تحت حماية دولية أو دستورية. وفي هذا السياق، تأسست قوات آشورية للدفاع الذاتي، مثل وحدات حماية سهل نينوى (NPU)، والتي لا تزال تنتشر في المنطقة رغم القيود المفروضة عليها.
الهوية والانقسام الاسمي
من أبرز العوامل التي تضعف الفعالية السياسية للشعب الآشوري ما يُعرف بـ”صراع التسمية”. ينقسم الآشوريون اليوم إلى ثلاث تسميات رئيسية: الآشوريون، الكلدان، والسريان. هذه التسميات غالبًا ما تعكس الانتماء الكنسي أكثر من كونها تعبيرًا عن الانتماء العرقي، لكنها أصبحت مسيسة في العقود الأخيرة.
الآشوريون، خاصة ممثلي الحركة الديمقراطية الآشورية، يرون أن هذه المجموعات تمثل شعبًا واحدًا. أما الكلدان، المنتمون غالبًا إلى الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، فيرون أنفسهم في بعض الحالات كشعب مستقل، وهو ما يدعمه البطريرك لويس ساكو. أما السريان/الآراميون، خاصة في الشتات، فيرفضون في بعض الأحيان الاسم الآشوري لصالح هوية آرامية أو سريانية
أدى هذا الانقسام إلى ضعف التمثيل المشترك أمام المنظمات الدولية، حيث تُقدّم هذه الأقلية نفسها بأسماء متعددة وبولاءات متضاربة، مما يعقّد مساعيها لنيل الحماية القانونية أو تحقيق الحكم الذاتي.
الكنيسة: بين القيادة الروحية والسياسة
تلعب الكنائس الآشورية دورًا يتجاوز الوظيفة الدينية، فهي حافظة لذاكرة الشعب وثقافته ولغته. خلال أزمة داعش، قدمت جميع الكنائس الكبرى – الكلدانية، السريانية الأرثوذكسية، والآشورية الشرقية – مساعدات إنسانية وساهمت في إدارة المساعدات الطارئة. وتحولت بعض الأديرة في أربيل، خاصة في حي عنكاوا، إلى مراكز إيواء مؤقتة.
لكن الكنائس لم تخلُ من النشاط السياسي أيضًا. فقد تبنت الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية موقفًا مغايرًا للتيار القومي الآشوري، داعية إلى هوية “كلدانية” وطنية. أما الكنيسة السريانية الأرثوذكسية فتبنت موقفًا حذرًا في الشرق الأوسط، فيما دعمت الهوية الآرامية في الشتات، خاصة في أوروبا. أما كنيسة المشرق الآشورية، رغم قربها من التيارات القومية، فقد أُضعفت بفعل انقسامات داخلية ونقص في البنية التنظيمية.
خاتمة
يقف الآشوريون في العراق على مفترق طرق حاسم بين الانقراض أو البقاء. كانت هجمات داعش في عام 2014 جرس إنذار قاسيًا يُظهر كيف يمكن للتهديدات الخارجية أن تمحو مجتمعات بأكملها في غياب الوحدة الداخلية والتمثيل القوي. ورغم وجود حماية دستورية نظريًا، إلا أن آليات الحكم الذاتي لا تزال غائبة عن التطبيق.
يعتمد مستقبل الآشوريين في سهل نينوى اليوم ليس فقط على الاعتراف الدولي، بل أيضًا على قدرتهم على تجاوز صراعات التسمية والانقسامات الكنسية والانشقاقات السياسية. تحاول جيل جديد من الآشوريين، خاصة في الشتات، أن يبني هوية موحدة ترتكز على اللغة والتاريخ والمصير المشترك بدلاً من الانتماء الطائفي – وهو أساس ضروري للبقاء وإعادة البناء.
دنحو بار موراد-أوزمن هو مربي خاص ومستشار سابق في الوكالة الوطنية السويدية للتربية الخاصة. يعمل محاضرًا، وقدّم أفلامًا تعليمية على التلفزيون السويدي، وكتب مقالات في مجلات تربوية سويدية. وُلد في قرية حبشيس بمنطقة طور عبدين، وكتب عن الشعب السرياني في مجلة “حُدادة” والمجلة البطريركية السريانية الأرثوذكسية. كما أنه صحفي نشط ومقدّم برامج في قناة سورويو
تنويه: الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب, و لا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية لموقع SyriacPress أو موقفه اتجاه أي من الأفكار المطروحة.
المراجع
Sargon Donabed, Reforging a Forgotten History: Iraq and the Assyrians in the Twentieth Century (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2015)
Constitution of Iraq, Article 125
Human Rights Watch, “Iraq: ISIS Abducting, Killing, Displacing Minorities,” 2014
World Watch Monitor, “Kurdish Peshmerga Fled, Leaving Christians Defenseless,” 2015
Assyrian International News Agency (AINA), “Assyrians Demand Autonomous Province in Iraq,” 2014
Assyrian Policy Institute, Nineveh Plain Protection Units: A Case Study in Self-Defense, 2019
Louis Raphael Sako، بيانات ومقالات، 2014–2020، منشورة عبر القناة الرسمية للبطريركية الكلدانية
Aramean Democratic Organization، بيانات صحفية، 2012–2022
Chaldean Archdiocese of Erbil، “تقارير الإغاثة الطارئة”، 2014–2016
Louis Raphael Sako, “The Chaldeans: A Distinct Nation,” 2015.
Syriac Aramaic Federation of Sweden, Identitet och folkbenämning: Historiskt perspektiv, 2018.
David Gaunt, Massacres, Resistance, Protectors: Muslim-Christian Relations in Eastern Anatolia during World War I (Gorgias Press, 2006)