‫‫‫‏‫4 أسابيع مضت‬

التلوث النفطي يدمر تعافي ما بعد الصراع في شمال وشرق سوريا 

زالين (القامشلي)، شمال وشرق سوريا — كل نفس يُسحب في القرى المحاذية لحقول نفط غر زيرو يحمل ثمناً خفياً. يقول علي ثلاج، ممرض مجتمعي عالج عشرات مرضى السرطان:  

“الهواء هنا لا يُطاق. نسجل نحو خمسين حالة سرطان لكل ٥٠٠ نسمة. وكلنا نحمل ورمًا كامناً ينتظر الانبثاق.”  

يعبّر هذا الوصف المروع عن واقع يومي تعيشه العائلات التي هربت من تنظيم د1عش الإرهابي لتجد أراضيها التاريخية وقد تحولت إلى خراب سام. 

منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (د1عش) عام ٢٠١٧، تسيطر “الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا” وقوات سوريا الديمقراطية على احتياطيات النفط في المنطقة. غير أن سنوات من القصف العشوائي—ابتداءً من قوات النظام السوري السابق مرورًا بالميليشيات المتنافسة ووصولًا إلى الطائرات التركية—حولت مصافي النفط المتهالكة إلى جروحٍ مفتوحة في المشهد الصحراوي. فأصبحت الأحياء التي كانت تنبض ببساتين الزيتون تحيط بها اليوم أنابيب صدئة وحفر مكشوفة من النفط الخام. 

يطلق السكان المحليون على مجرى المياه المسود جراء تسرّب المواد الملوثة اسمنهر الموت”. فهو مملوء بمياه الصرف النفطي والوقود، ويتدفق مع أمطار الشتاء ليغمر المزروعات ويبتلي المواشي. ويروي الفلاحون أن قطعانهم تموت بعد شربها من هذا النهر؛ ولم تعد الأرض صالحة للزراعة منذ ذلك الحين. 

مع قطع هذه الشرايين الاقتصادية، يتساءل السكان عن مستقبل شمال وشرق سوريا، فالنفط كان المصدر الرئيس للإيرادات الإقليمية، إذ لا تستطيع الأرض الجافة دعم زراعة واسعة النطاق.



خلال الحرب السورية، تنازع الرئيس السابق بشار الأسد والقوات الكردية وتنظيم د1عش الإرهابي وتركيا على حقول النفط لتمويل عملياتهم، مستغنين عن أدنى معايير الحماية البيئية، وعندما خفتت حدة القصف، أعلن المهندسون أنّ كثيرًا من المنشآت تجاوزت نقطة الإصلاح، تاركين جريان الملوثات دون مراقبة. 

وما يزيد من حدة الأزمة، العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، والتي عطّلت تمويل صيانة المصافي أو تحديثها. حيث تعمل المولدات المشغلة بمادة المازوت، بلا هوادة طوال اليوم، مضيفةً إلى تلوّث الهواء تلوثا أكبر وأشد سمية. إذ لم تُفلح البرامج البيئية المحلية—من حملات إعادة التشجير إلى إدارة المياه وتنظيف محدود للمناطق الملوثة—في مواجهة عقودٍ من التدهور. 

أما في كانون الأول ٢٠٢٣، فقد تعرّضت مصفاة العودة قرب زالين (القامشلي) إلى ست غارات تركية في شهرٍ واحد. وفي 15 كانون الثاني ٢٠٢٤، أدّى انفجار صاروخي إلى تمزق خزان تجميعي، ما تسبّب بتسرب نحو خمسة وثلاثين ألف برميل نفط في الأراضي الزراعية المجاورة. وكشفت صور الأقمار الصناعية لاحقًا عن مساحات ميتة تمتد لمئات الهكتارات لا ينبت فيها شيء لسنواتٍ قادمة. حيث حاولت متطوّعات “كونغرا ستار”، منظمة المرأة في الإدارة الذاتية الديمقراطية، إنشاء بيت بلاستيك لزراعة شتلات على موقع التسرب، لكن جهودهن لا تُغني عن استصلاح بيئي واسع النطاق. 

يشكّل شحُّ المياه—وهو إرث آخر من الحرب والتهجير—عامل ضغط إضافي على البيئة، حيث أن تركيا تتحكّم بروافد نهر الخابور، فتقطع القنوات وتجفف الخزانات، ما يضطر القرى إلى تقنين حاد في مياه الشرب. أما الآبار التي كانت تُروى بها البساتين فجُرّدَت من أنظمة التنقية بعد تدميرها خلال سنوات الصراع والعقوبات. 



وعلى الرغم من هذه التحديات، جعلت حركة الكونفدرالية الديمقراطية البيئة ركيزة في مشروعها السياسي دافعة المجالس المحلية نحو إدارة مشتركة للموارد، ومشجعة لمشاريع الطاقة المتجددة، وتطبيق مبادرات للتخلّص من النفايات العضوية. غير أن هذه المشاريع تعثّرت لافتقادها الدعم الخارجي من ناحية التمويل والتقنية النظيفة. 

وتظهر البيانات الصحية حجم الكارثة: ففي بعض القرى، ترتفع نسب السرطان إلى حالة واحدة من كل عشر حالات؛ وازداد ظهور الأمراض الجلدية وأمراض الجهاز التنفسي والتشوهات الخلقية. حيث يروي ثلاج أن المرضى غالبًا ما يُكتشف لديهم الأورام في مراحل متقدّمة، فتتضاءل فرص شفائهم حتى عند توفّر العلاج. 

 “استعَرَضنا حقنًا وقفازاتٍ من عيادات مجاورة”، يقول. “لكن لا توجد هنا طاقة محلية لرعاية مرضى الأورام.” 

وقد بدأت وكالات إغاثية دولية تُولي الأمر اهتمامًا متزايدًا. فقد أرسلت منظمات مثل “أطباء بلا حدود” و”اليونيسف” عيادات متنقلة لمراقبة أمراض التلوّث وتوزيع أنظمة طوارئ لتنقية المياه. غير أن خطوط الإمداد تظل عرضة للقتال المتقطع والبيروقراطية. 

ويحذر ناشطون بيئيون من أن إهمال ندوب النفط في شمال وشرق سوريا يهدّد الحياة الإنسانية وأي فرصة لتحقيق السلام الدائم. تقول غوليستان عيسى من منظمة “أون بونتي بير” الإيطالية الشريكة للمجالس المحلية:  

“ليست مسألة بيئية فحسب، بل قضية عدالة. لا يمكن لأهل شمال وشرق سوريا أن يعيدوا بناء مجتمعهم على أرضٍ مسمومة.” 



وفي وقتٍ تستذكر مجتمعات المنطقة شهداء الإبادة الجماعية (سيفو) في يوم الذكرى الخامس عشر من حزيران، تواجه اليوم تهديدًا جديدًا—إرثًا قاتلًا لا تُدركه الأبصار، تولده الحروب ويتواصل بسبب الإهمال. دعوتهم واضحة: الاعتراف بالكارثة البيئية واستجابة دولية منسقة لشفاء الأرض والإنسان معًا. فبدون ذلك، قد تُدفنَ مكاسب ما بعد الصراع تحت النفط ذاته الذي كان يومًا وعد الازدهار. 

‫شاهد أيضًا‬

جهود إخماد حرائق اللاذقية مستمرة.. والإدارة الذاتية تسيّر قافلة دعم نحو مناطق الحرائق

اللاذقية، سوريا — لاتزال الحرائق التي اندلعت في مدينة اللاذقية، الخميس الفائت، والتي اجتاح…