الصدمة النفسية لدى ناجي مجزرة سيفو وتأثيرها عبر الأجيال
بقلم الكاتب: دِنحو بارموراد-أوزمن |مربي تعليم خاص ومستشار سابق لدى الوكالة الوطنية السويدية للتعليم الخاص. يعمل محاضرًا
المقدمة
إن الإبادة الجماعية لا تخلّف وراءها دمارًا ماديًا فحسب، بل تولّد أيضًا آثارًا نفسية وثقافية وبنيوية تمتد عبر الأجيال. تستعرض هذه المقالة مجزرة “سيفو”، التي استهدفت الشعب السرياني/الآشوري في الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وتُحلّل تأثيراتها الممتدة على الناجين وأحفادهم. ومن خلال دراسة الأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للصدمة العابرة للأجيال، تهدف المقالة إلى تسليط الضوء على تعقيدات هذا النوع من الألم الجماعي واستكشاف مسارات ممكنة للتعافي وبناء المرونة النفسية.
. تعريف الإبادة الجماعية والصدمة النفسية
وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)، تُعرَّف الإبادة الجماعية بأنها “أفعال تُرتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، كليًا أو جزئيًا” (الأمم المتحدة، 1948). أما مصطلح “سيفو”، فهو مأخوذ من اللغة السريانية-الآرامية ويعني “السيف”، ويشير تحديدًا إلى الإبادة المنظمة للسريان/الآشوريين عام 1915، تزامنًا مع مجازر الأرمن واليونان البنطيين.
وفي هذا السياق، لا تشير الصدمة النفسية إلى الأذى الفردي فحسب، بل تشمل أيضًا معاناة ثقافية جماعية. وقد طرحت العالمة النفسية ماريا ييلو هورس بريف هارت (1998) مفهوم “الصدمة التاريخية”، بوصفها الجرح العاطفي والنفسي المتراكم الذي تعانيه الشعوب عبر الأجيال نتيجة أحداث عنف جماعية كارثية.
التأثير الاجتماعي على أحفاد الناجين
تظهر آثار الصدمة النفسية في الأجيال التالية حتى عندما لا تكون قد عايشت أحداث العنف مباشرة. فقد أظهرت الدراسات أن أحفاد الناجين من الإبادة الجماعية يعانون في كثير من الأحيان من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، والقلق، والاكتئاب، وحتى شعور الذنب المرتبط بالبقاء (Danieli 1998). وغالبًا ما تتسم العلاقات الأسرية بالصمت، أو الحماية المفرطة، أو التباعد العاطفي، مما يؤثر بدوره في تكوين الهوية والرفاه النفسي.
وقد أثبت كيلرمان (2001)، في دراسته لأبناء ناجي الهولوكوست، أن الصدمة يمكن أن تنتقل من جيل إلى آخر عبر آليات بيولوجية (وراثية-فوق جينية) واجتماعية نفسية. وقد لوحظت أنماط مشابهة بين أحفاد ضحايا سيفو. ومع ذلك، فإن الحوار بين الأجيال والانخراط في طقوس إحياء الذكرى قد يكونان عاملين وقائيين يعززان القدرة على الصمود وإصلاح العلاقات.
الصمود الثقافي والحِداد الثقافي
تلعب الثقافة دورًا مزدوجًا: فهي من جهة حاملة للصدمة التاريخية، ومن جهة أخرى وسيلة للشفاء. إن فقدان اللغة، والطقوس، والذاكرة التاريخية يُعدّ شكلاً من أشكال *الحِداد الثقافي*، وهو مصطلح استخدمه يهودا وآخرون (2001) لوصف الحزن العميق الذي يعتري المجتمعات عندما تنقطع استمرارية ثقافتها.
غير أن هذه الخسارة حفّزت أيضًا نهوضًا ثقافيًا لافتًا. ففي الشتات السرياني/الآشوري، شرع العديد من أفراد المجتمع بإحياء اللغات المهددة كالـ”سورايت” و”طورويو”، وتعزيز الأدب والفن، وتنظيم فعاليات لإحياء ذكرى المجزرة. ومن الأمثلة البارزة على هذه الجهود “مركز سيفو”، وهو مؤسسة دولية تُعنى بالبحث والتوثيق وإحياء ذكرى المجزرة.
وقد لعبت الفنون والموسيقى والشعر دورًا مركزيًا في نقل الذاكرة الجماعية والتعامل مع الصدمة المشتركة. وهكذا، تصبح الثقافة ليست فقط وعاءً للخسارة، بل أيضًا منبعًا للمعنى، والمقاومة، والاستمرارية
التهميش الاقتصادي والتنقّل الاجتماعي
نادرًا ما تقتصر الإبادة على الإبادة الجسدية؛ إذ تستهدف كذلك البنية الاقتصادية للشعب. فقد أدى تدمير المنازل، والممتلكات، والمدارس، وسبل المعيشة إلى فقر متعدد الأجيال وتهميش منهجي. واضطُر الناجون إلى إعادة بناء حياتهم من الصفر في بيئات جديدة غالبًا ما كانت تفتقر إلى الترحيب.
ورغم هذه التحديات، أظهر الشتات السرياني/الآشوري مرونة اقتصادية ملحوظة. فقد أصبحت التعليم وسيلة محورية للارتقاء الاجتماعي. وفي بلدان مثل السويد، ساهمت منظمات ورواد أعمال سريان/آشوريون في قصص نجاح فردية، كما عززوا الاستقرار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي في مجتمعاتهم المحلية (أوزمن، 2022).
الصدمة في العلاقة مع الجناة
يُعد إنكار الجرائم التاريخية من أكبر العوائق أمام التعافي. إن رفض الدولة التركية المستمر للاعتراف بمجزرة سيفو يفاقم الأذى النفسي ويمنع المصالحة. فالإنكار يُعدّ نوعًا من *الضحايا الثانوية*، إذ يُعيد إلحاق الأذى بالناجين من خلال نفي معاناتهم.
ولتحقيق مصالحة حقيقية، يجب على أحفاد الجناة مواجهة الحقائق التاريخية، وإبداء الندم، والمشاركة في مبادرات العدالة التصالحية. وعلى الرغم من أن هذه الخطوات لا تزال في بدايتها بالنسبة لسيفو، فإن بوادر الأمل بدأت تظهر من خلال حركات المجتمع المدني في تركيا وفي الشتات (Staub،.2006).
التعافي الجماعي والمجتمعي
يُعد المجتمع حجر الزاوية في عملية التعافي من الصدمة التاريخية. فالمشاركة في الطقوس الجماعية—مثل يوم سيفو الذي يُحيى في 24 أبريل—توفّر فضاءات رمزية للحزن والتضامن والاعتراف بالتاريخ. وتؤدي هذه الطقوس ما وصفته جوديث هيرمان (1997) بـ”إعادة بناء المعنى والروابط” بعد الكوارث الجماعية.
ويكتسي الحوار بين الأجيال أهمية خاصة. إذ ينبغي أن تُزوَّد الأجيال الشابة بالمعرفة التاريخية اللازمة لفهم تراثهم، كما يجب توفير بيئات آمنة للكبار كي يرووا تجاربهم المؤلمة. وقد لعبت الكنائس، والمجموعات الشبابية، والجمعيات الثقافية دورًا محوريًا في هذا السياق، إذ ساعدت على تعزيز الصمود واستمرارية الهوية.
سُبل التعافي: توصيات عملية
معالجة الصدمة الجماعية
الدعم النفسي الاجتماعي: تطوير خدمات الصحة النفسية المتخصصة في الصدمات وتأسيس شبكات دعم يقودها المجتمع
التعبير الثقافي: الاستثمار في الفن، واللغة، والممارسات الطقسية التي تعزز التعبير الجماعي والشفاء الرمزي
التعليم والهوية
الوعي التاريخي*: إدراج تاريخ سيفو والإبادات المرتبطة بها في المناهج الدراسية والمقررات الجامعية.اللغة والتراث: تمويل تعليم اللغات الأم ومبادرات التاريخ الشفوي لحفظ المعرفة بين الأجيال
الحكم الذاتي السياسي والاقتصادي
التمثيل الديمقراطي: تعزيز تمثيل الأقليات السريانية/الآشورية في المؤسسات العامة وصناعة القرار.التنمية الاقتصادية: دعم ريادة الأعمال، والتدريب المهني، ومشاريع التنمية المحلية في مجتمعات الشتات
المصالحة والعدالة
الاعتراف الدولي: مواصلة الجهود لنيل الاعتراف العالمي بمجزرة سيفو
مبادرات الحوار: إنشاء منصات للحوار المنظم بين أحفاد الضحايا والجناة كجزء من عمليات المصالحة الشاملة
خاتمة
إن صدمة سيفو لا تقتصر على الألم الشخصي فحسب، بل تتغلغل في النُظم الاجتماعية، والسرديات الثقافية، والعلاقات الأسرية. وأي طريق جاد نحو التعافي يجب أن يشمل الاعتراف، والشفاء، وبناء الصمود. ومن خلال التمكين التعليمي، والحفاظ على الثقافة، والمشاركة السياسية، والتضامن المجتمعي، لا يُعد أحفاد الناجين مجرد ضحايا للتاريخ، بل بناة للكرامة والعدالة والتجدد.
إن السعي نحو المصالحة لا يعود بالنفع فقط على من يحملون عبء الفقدان المتوارث، بل يشمل أيضاً المجتمعات التي وقعت فيها تلك الأحداث التاريخية. ويمكن للشتات الآشوري/السرياني، الذي يتميز بمستوى عالٍ من التحصيل العلمي، وروح ريادة الأعمال، والحيوية الثقافية، أن يُسهم في بناء جسور نحو مستقبل أكثر شمولية وديمقراطية لتركيا
ويُعد ما يُعرف بـ “السياحة التصالحية” أحد المسارات الواعدة—وهي زيارات تاريخية واعية إلى المناطق الأصلية للأجداد. ويمكن لهذه المبادرات أن تمثل أدوات فعّالة للشفاء الرمزي والإنعاش الاقتصادي، من خلال تعزيز الفهم المتبادل بين الثقافات، ودعم التنمية المحلية، والمساهمة في إحلال السلام المستدام والازدهار المشترك
وفي السنوات الأخيرة، لوحظت مؤشرات تدل على أن الجمهورية التركية بدأت تتخذ خطوات متواضعة ولكنها ذات دلالة نحو منح الشعب الآشوري/السرياني المزيد من الحريات الثقافية، وتسهيل العودة الطوعية للأهالي إلى مدنهم وقراهم التاريخية. وقد ساهمت هذه التطورات في تعزيز شعور متجدد بالثقة تجاه السلطات المحلية والإطار المؤسسي العام للدولة. ورغم أن هذه الإجراءات لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أنها تحمل إمكانية أن تصبح حجر الأساس لمصالحة أعمق. ويأمل كاتب هذه الدراسة في أن تتطور هذه المبادرات إلى سياسات أكثر شمولاً لا تكتفي بالاعتراف بالظلم التاريخي، بل تعزز أيضاً التعايش المتعدد والانتماء المشترك. إن تعزيز هذه الخطوات قد يمهد الطريق نحو مستقبل يتسم بالاعتراف المتبادل، والكرامة الثقافية، والسلام المستدام.
وفي نهاية المطاف، فإن الاعتراف بالمظالم التاريخية وتبنّي سرديات تعددية يُتيحان لتركيا فرصة لإعادة تشكيل هويتها الوطنية على أسس ديمقراطية وحقوقية. وبهذا، لا يُكرَّم فقط ذكرى المجتمعات التي فُقدت، بل تتحول تلك الذكرى إلى محفز لبناء مستقبل أكثر عدالة ووحدة .
دنحو بار مراد–أوزمن : مربي تعليم خاص ومستشار سابق لدى الوكالة الوطنية السويدية للتعليم الخاص. يعمل محاضرًا، وأنتج أفلامًا تربوية عُرضت على التلفزيون السويدي، ونشر مقالاتٍ في مجلات تربوية سويدية. وُلد مراد في قرية حبصس بطور عبدين، وكتب عن الشعب السرياني في مجلة «هوجادا» ومجلة بطريركية السريان الأرثوذكس. كما يمتلك خبرة طويلة في الصحافة ويشغل حاليًا منصب مقدم برامج في تلفزيون سورويو.
تنويه: الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب, و لا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية لموقع SyriacPress أو موقفه اتجاه أي من الأفكار المطروحة.
اكتشاف أثري في أورهاي يُحتمل أن يكون قبراً يعود إلى السلالة السريانية الأبجرية
أورهاي (شانلي أورفا)، بيث نهرين — أثارت أعمال تنقيب أثرية حديثة في أورهاي حماساً كبيراً بع…