‫‫‫‏‫6 ساعات مضت‬

العدو

بقلم: أمين جول إسكندر | رئيس الاتحاد السرياني الماروني – طور ليفون ورئيس العلاقات الخارجية في حزب الاتحاد السرياني العالمي.


التطور العالمي في مجال الاتصالات والمعلومات يفتح آفاقًا غير محدودة أمام إنسانية تجاوزت عصورها الوسطى وما رافقها من حملات اضطهاد ومطاردة الساحرات. وعلى لبنان أن يختار بين الانخراط في هذا التطور أو الاستمرار في فقدان أبنائه الذين باتوا لا يجدون فيه وطنًا يعكس هويتهم. 

في عام 1915، وفي خضم الإبادة الجماعية الكبرى لمسيحيي الشرق، ابتكر جمال باشا مفهوم “العدو”. وهي أداة أثبتت فعاليتها الفائقة في القضاء على الفكر الحر، وبالتالي على الوجود الإنساني ذاته. فإذا كان “أنا أفكر، إذًا أنا موجود”، كما قال ديكارت، فإن الهدف كان هو إيقاف تفكيرنا لنُمحى وجوديًا. 

العدالة العثمانية 

جمال باشا، الذي أوكلت إليه معالجة ما كان يُسمى آنذاك “المشكلة الأرمنية واللبنانية”، أعلن أن فرنسا هي العدو الأول. وكل تعامل معها كان يؤدي مباشرة إلى المحكمة العسكرية في عاليه، التي امتدت صلاحياتها لتشمل المدنيين وأصبحت مصدر رعب للسكان. وبما أن غالبية المسيحيين تلقوا تعليمهم في المدارس الفرانكفونية، فقد اعتُبروا تلقائيًا مشبوهين بالتعاون مع العدو. 

ولأن السلطات لم تتمكن من إيجاد أدلة حقيقية على “التعامل”، تم توسيع مفهوم العدو ليشمل “التواصل”. فمجرد رسالة تحمل عنوانًا فرنسيًا كانت كافية للاعتقال والاستجواب العنيف. وغدا  

اسم المحكمة في عاليه مرادفًا لمكان لا عودة منه. حتى ذكر فرنسا كان يثير الخوف، وأصبح الناس يتجنبون أي علاقة حتى مع أقربائهم إذا ما اتُّهموا التعامل مع العدو المزعوم. 

ونظرًا لنجاح هذه الآلية في قمع الفكر، تبنتها لاحقًا أنظمة البعثيين، واليساريين، والعروبيين، والناصريين، والإسلاميين، كأداة فعالة لفرض الهيمنة الفكرية. فقلّما وُجد أسلوب أكثر “شرعية” و”قانونية” في عزل المجتمعات عن العالم وترويعها. 

الإرهاب الفكري 

ومع انعدام “قضايا التعامل”، لجأت السلطات إلى ملاحقة “التواصل مع العدو”. ولتخويف الجميع، بدأوا باستهداف الشخصيات البارزة. ففي عام 2022، هاجمت الأجهزة الخاضعة لسيطرة حزب الله المطران الماروني في حيفا والأراضي المقدسة، في تكرار لأساليب جمال باشا، الذي أعدم المطران يوسف حايك عام 1915 بتهمة التعامل مع العدو. 

واليوم، يمكن لصورة فتاة في العشرين من عمرها، شاركت في مسابقة جمال والتقطت صورة مع إسرائيلية، أن تؤدي إلى تهديدها هي وعائلتها ومجتمعها بأسره. ومع انتشار الوعي بهذه التهديدات، بات الجميع يتجنبون حتى ما لا يمكن تجنبه. وهنا ظهرت “عبقرية” جديدة في صناعة الأعداء: بعد التعامل، والاتصال، أُدخل مفهوم “التعاطف”  

وهذا هو أخطر المفاهيم، لأنه لا يتعلّق بالفعل (أي التعامل أو التواصل) بل بالشعور. فإذا أصبح الفرد معرضًا للملاحقة بسبب مشاعره، فإن الوسيلة الوحيدة للحماية هي التوقف عن الإحساس، وبالتالي عن التفكير، أي عن الوجود. وهذا التهديد يعني أننا مسموح لنا بالوجود الجسدي فقط، دون أي بُعد ثقافي أو هوياتي. 

العلمانية الزائفة 

يدّعي الإسلاميون التسامح مع “أهل الكتاب”، ويدّعي العروبيون العلمانية. وهم يقبلون المعتقد المسيحي وممارساته طالما أنه لا يترجم إلى هوية ثقافية أو سياسية مستقلة. وبعدما تم تهميش التاريخ واللغة والروابط الثقافية للمسيحيين، انتقل الهجوم إلى عقيدتهم وروحانيتهم، وأُجبروا على تبني مفاهيم تتعارض مع جوهر إيمانهم المبني على المحبة الكاملة. 

ففي المسيحية، العدو ليس مناسبة لخطاب الكراهية، بل لخطاب المحبة. إذ يقول الإنجيل بحسب القديس متى: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم» (متى 5:44-45). ويقول لوقا: «أحبوا أعداءكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وباركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم» (لوقا 6:27-28). ويضيف بولس الرسول: «إن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه» (رومية 12:20). 

أما حين يظهر العنف في العهد الجديد، كما في لوقا 19:27، فهو في إطار الرمز ضمن الأمثال أو الرؤى المروية، ولا يحمل طابعًا تحريضيًا بل إسكاتولوجيًا. 

الاستلاب الثقافي 

لقد تم استئصال الهوية من خلال عملية طويلة من الاستلاب الثقافي، حتى بات المجتمع يلعن يوميًا “العدو”. وكما كتب ميلان كونديرا Milan Kundera”: «للقضاء على الشعوب، يُبدأ بتدمير كتبهم وثقافتهم وتاريخهم». ومن خلال محو الذاكرة واللغة والمعالم الثقافية، يمكن إدخال مفاهيم دخيلة تُقبل رغم تناقضها. وكما قال جورج أورويل “George Orwell”: «إذا أفسدتَ الفكر، أفسدتَ اللغة، والعكس صحيح». 

ولهذا، يصبح اختيار الكلمات جوهريًا. كما قال لينين “Lenin”: «أجعلهم يبتلعون الكلمة، فيبتلعون معها الفكرة». وتكرار العبارات الجوفاء يزرعها في اللاوعي الجماعي. وكما قال غوبلز “Goebbels: «إذا كرّرت الكذبة مرات كافية، تصبح حقيقة». 

ومع كل مقابلة إعلامية، تُستحضر كلمة “العدو” مقرونة بصفات “الغاشم” و”المتوحش”، مع نظرات صارمة للضيف ليتأكدوا من استعداده للمشاركة في هذا الخطاب المسموم. فالعقل يبدو كأنه قد أُخمد، أو كما وصفه فيكتور كليمبيرر “Victor Klemperer” في تحليله للدعاية النازية: «الكلمات تُشبه جرعات صغيرة من الزرنيخ». 

رؤية العالم 

«حدود لغتي تعني حدود عالمي»، كتب لودفيغ فيتغنشتاين “Ludwig Wittgenstein” عام 1820. ولهذا السبب، ركّز أيديولوجيو الإسلام السياسي والعروبة على اللغة، لأنها تمثل نظام إدراك الواقع الاجتماعي. وكما قال إدوارد سابير “Edward Sapir”: «اللغة هي مرشد الواقع الاجتماعي»، وبيّن بنيامين لي وورف “Benjamin Lee Whorf” العلاقة بين اللغة والتفكير والسلوك اليومي. 

ساهمت الثقافة الفرنسية والمدارس والإعلام اللبناني الفرنكوفوني والأنغلوفوني في كسر هيمنة الخطاب الرسمي ومصطلحاته. فكما قال فيلهلم فون هومبولت “Wilhelm von Humboldt”: «تنوع اللغات ليس مجرد اختلاف في الأصوات، بل تنوع في الرؤى». ومن يقرأ الكتب القديمة باللغة السريانية يندهش من رؤيتها المختلفة للتاريخ والعالم، مقارنة بما فرضته بروباغندا القرن العشرين. لكن كم من الناس ما زالوا يتقنون هذه اللغة؟ ومن منهم يملك الجرأة للتعبير عن قناعاته؟ 

وهنا تبرز أهمية التطور العالمي في مجالي الاتصال والمعلومات، الذي يمنحنا نافذة على عالم تجاوز عصور الظلام. وعلى لبنان أن يختار: إما أن ينخرط في هذا التقدم، أو أن يظل سجنًا يُهجره أبنائه الذين باتوا لا يجدون فيه وطنًا يعكس هويتهم 


أمين جول إسكندر هو رئيس الاتحاد السرياني الماروني: طور ليفون، ورئيس العلاقات الخارجية في حزب الاتحاد السرياني العالمي.

نشر المقال الأصلي باللغة الفرنسية على موقع “اسي بيروت” ويمكن العثور على المقال هنا.

تنويه: الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب, و لا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية لموقع SyriacPress أو موقفه اتجاه أي من الأفكار المطروحة.

‫شاهد أيضًا‬

عون وسلام يؤكدان على ضرورة تجنيب لبنان أي صراعات في المنطقة

لبنان- على خلفيةِ الصراعات الجارية في المنطقة، وعلى رأسها الصراع الإسرائيلي الإيراني، أكد …