آشور يوسف: رائد الصحافة الآشورية وشهيد الوحدة القومية
استشهد آشور يوسف عام 1915 في مذابح السيفو، ليصبح أول شهيد للصحافة الآشورية. لم يكن موته نهاية قصته، بل بداية إرثٍ خالدٍ ألهم أجيالاً من الآشوريين لمواصلة النضال من أجل حقوقهم.
بيث نهرين – في أزقة مدينة خربوط التركية، حيث تتداخل روائح التاريخ مع همسات الثقافة، وُلد آشور يوسف عام 1858، ليصبح لاحقًا رمزًا خالدًا للنضال القومي الآشوري. لم يكن مجرد صحفي أو أديب، بل كان صوت أمة ظُلمت، ومنارة أضاءت دروب الوعي القومي في زمنٍ كان فيه القلم سلاحًا أخطر من السيف. يُلقب آشور يوسف بـ”شيخ الصحافة الآشورية”، وهو أول شهدائها في التاريخ الحديث، حيث دفع حياته ثمنًا لإيمانه بالحرية والكرامة القومية.
نشأةٌ في بيئةٍ غنية وطموحٌ لا حدود له
نشأ آشور يوسف في عائلة يعقوبية ميسورة الحال في خربوط، شرق تركيا، لكن ثروة عائلته لم تُغره، فقد كان قلبه معلقًا بحلم أكبر: تحرير شعبه الآشوري من قيود الاضطهاد والتفرقة. تلقى تعليمه الأولي في مسقط رأسه، حيث أظهر شغفًا مبكرًا بالعلم والثقافة. لاحقًا، انتقل إلى العاصمة العثمانية لإكمال دراسته العليا، حيث حصل على شهادة في التعليم من مكتب تركيا الثقافي. لم يكتفِ بذلك، بل واصل دراسته في مدن تركية أخرى مثل آمد، إزمير، وأنطاكية، حتى نال لقب “البروفيسور” وأصبح مدرسًا في كلية الفرات، وهي مؤسسة أمريكية مرموقة في خربوط.
كان آشور يوسف مثقفًا متعدد اللغات، يجيد السريانية والعربية والتركية، مما مكّنه من التواصل مع جمهور واسع ومتنوع. لم يقتصر طموحه على التدريس، بل سعى إلى توحيد المثقفين والعلماء من أبناء شعبه، مؤمنًا بأن الثقافة واللغة هما أساس نهضة الأمة. هذا الإيمان دفعه إلى تأسيس جريدة “مرشد الآشوريين” عام 1910، وهي أول صحيفة قومية آشورية تُصدر باللغتين السريانية والعربية، لتصبح منبرًا للإصلاح وإيقاظ الوعي القومي.
مرشد الآشوريين : شعلة التنوير القومي
كانت جريدة “مرشد الآشوريين”، التي استمر صدورها حتى عام 1915، بمثابة صوت الأمة الآشورية في زمن الاضطهاد. لم تكن مجرد وسيلة إعلامية، بل منصة ثقافية وسياسية تناولت قضايا الأدب، الدين، التاريخ، والتهذيب. ركزت الجريدة على نشر أخبار الآشوريين في مختلف مناطقهم، من العراق وسوريا إلى تركيا، وسعت إلى تعزيز الوحدة القومية ومحاربة الطائفية. كانت تُطبع بتقنية الميميوغراف بخط يد آشور نفسه، في ظل شح الإمكانيات التقنية، مما يعكس إصراره على إيصال صوت شعبه.
حلم آشور بجلب مطبعة بأحرف سريانية لتوسيع نطاق جريدته ونشر مؤلفاته، لكن الظروف السياسية والاقتصادية القاسية في الإمبراطورية العثمانية حالت دون تحقيق هذا الحلم. ورغم أن معظم كتاباته بالسريانية والعربية والتركية فُقدت مع مرور الزمن، إلا أن الكاتبة الأمريكية سيم إليس بلاكويل جمعت بعض مقالاته وترجمتها إلى الإنجليزية، لتبقى شاهدًا على عبقريته وإسهاماته الأدبية.
من خلال جريدته، دعا آشور إلى الوحدة القومية، وحارب التخلف والفساد بقلمه الجريء. كتب مقالات نقدية تدعو إلى الإصلاح وتجاوز الانقسامات الطائفية، مما جعله هدفًا للسلطات العثمانية. ورغم ذلك، لم يتراجع، بل واصل كتاباته بنفس الجرأة والإصرار. تقديرًا لإسهاماته الأدبية، مُنح وسام الدولة للآداب من وزارة الثقافة التركية، في مفارقة تاريخية تُظهر التناقض بين دوره الثقافي واضطهاده السياسي.
النضال في مواجهة الاضطهاد
مع تصاعد التوترات في الإمبراطورية العثمانية، وخاصة مع بدء مذابح السيفو عام 1915، واجه آشور يوسف مصيرًا مأساويًا. كانت جريدته قد اتخذت منحىً أكثر جرأة في الدفاع عن القضية الآشورية، داعية إلى تقرير المصير والاستقلال. هذا التوجه أثار غضب السلطات العثمانية، التي رأت فيه تهديدًا مباشرًا لسيطرتها. في عام 1914، بدأ الصراع بين آشور والسلطات يشتد، حيث أصبحت مقالاته تركز على الهوية الآشورية ومحاربة الظلم.
في نيسان 1915، أُلقي القبض عليه من قبل السلطات العثمانية. من زنزانته، كتب رسالته الأخيرة إلى أخيه، وهي وثيقة تاريخية تعكس عمق إيمانه بقضيته. قال فيها: «أنتهز هذه الفرصة لكي أكتب إليكم رسالتي الأخيرة، لأنني أعلم بعد مغادرتنا لهذا المكان سيتم تقطيعنا إلى قطع صغيرة، رغم أنني لا أعرف متى وأين». وأضاف، في لحظة مليئة بالأمل والصمود: «لا تقلق على موتي، فإنها مشيئة الله، وأنا ذاهب إلى السماء لحماية حقوق الآشوريين في حضور أكبر وأعظم الحكام».
استشهد آشور يوسف عام 1915 في مذابح السيفو، ليصبح أول شهيد للصحافة الآشورية. لم يكن موته نهاية قصته، بل بداية إرثٍ خالدٍ ألهم أجيالاً من الآشوريين لمواصلة النضال من أجل حقوقهم.
إرثٌ يتجاوز الزمن
كان آشور يوسف رائدًا في زرع بذور الوعي القومي الآشوري، ولم يكن وحده في هذا المشوار. شاركه أدباء مثل الملفان نعوم فائق، الذي ساهم في كتابة مقالات في “مرشد الآشوريين”، وساند جهوده في نشر الفكر القومي. في ظل الاضطهاد العثماني، كان إصدار جريدة قومية عملًا بطوليًا يعكس شجاعة آشور وإيمانه بأن العلم والثقافة هما أقوى أسلحة الأمة. لقد تحدى قلمُه مظاهر التخلف والفساد، ودعا إلى رص الصفوف وتجاوز الانقسامات الطائفية، في وقت كانت فيه مثل هذه الأفكار تُعتبر جريمة.
اليوم، يُنظر إلى آشور يوسف كعلمٍ من أعلام النهضة الآشورية المعاصرة. إرثه لا يقتصر على جريدته أو كتاباته، بل يكمن في الروح التي زرعها في قلوب أبناء شعبه: روح الصمود والتوق إلى الحرية. رغم فقدان معظم مؤلفاته، فإن اسمه ظل محفورًا في ذاكرة الأمة الآشورية، كرمزٍ للنضال والتضحية.
خاتمة: قلمٌ لا يزال يكتب
آشور يوسف لم يكن مجرد صحفي أو أستاذ، بل كان صوتًا لأمةٍ سُلبت حقوقها. قاوم بقلمه، وحارب بكلماته، واستشهد من أجل حلمه بوطنٍ حرٍ موحد. في زمنٍ كان فيه النضال يعني الموت، اختار آشور أن يعيش لقضيته، حتى لو كان ذلك على حساب حياته. إرثه لا يزال حيًا في كل آشوري يحمل راية الثقافة واللغة، وفي كل صوتٍ يطالب بالحرية. آشور يوسف لم يمت، فقلمه لا يزال يكتب قصة أمةٍ ترفض الخضوع.
شبيبة بيث نهرين تقيم محاضرة بعنوان “التنظيم”
بغديدا (قرقوش)، سهل نينوى — أقامت شبيبة بيث نهرين محاضرة تثقيفية بعنوان “التنظيمR…