آخر صنّاع العود في دمشق: إرث عائلة مسيحية
دارمسوق (SyriacPress) — في الأزقة المتعرجة لحيّ باب توما في دارمسوق (دمشق) القديمة، تتلاشى أصوات الورشات شيئًا فشيئًا مع تراجع حرفة عريقة. تُعدّ دارمسوق (دمشق) من أقدم مدن الشرق الأوسط، وتشتهر شوارعها الضيقة بصناعة الحرف اليدوية التي ازدهرت فيها منذ العصور الوسطى. ومن بين الصناعات التقليدية التي ميّزت المدينة — كصناعة السيوف والدانتيل والفضة — تبرز صناعة العود كحرفة سورية فريدة.
تشير وكالة الأنباء الرسمية السورية إلى أن “العود منارة الطرب الأصيل” و”جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي اللامادي الذي ورثه السوريون عن أجدادهم”. وحتى في القرن الحادي والعشرين، لا تزال صورة العود مرتبطة بمدينة دمشق. وكما قال أحد الخبراء: العود الدمشقي الأصيل “قائم على الحزن… على النغمة الدافئة والعذبة”. وهذا بالضبط ما يسعى أنطون “طوني” طويل، وابنته الصغيرة ماري، إلى الحفاظ عليه تحت سقف ورشة واحدة.

تقليد صناعة العود في دارمسوق (دمشق)
تعود قصة العود الدمشقي إلى قرون مضت. ففي عام 1897، صنع الحرفي الدمشقي عبده النحات أول عود دمشقي، مطلقًا بذلك تقليدًا محليًا مميزًا. ومع بدايات القرن العشرين، أصبح العود حاضرًا في حفلات الأعراس السورية والجلسات النسائية. وذاع صيت عائلة نحات — وهي عائلة روم أرثوذكس من دمشق — كصناع لآلات اعتُبرت من بين الأجود عالميًا. وتُظهر الملصقات القديمة ونماذج المتاحف العشرات من الأعواد الدمشقية التي تحمل أسماء مثل حنا نحات، جورج نحات، وتوفيق نحات.
ويشير أحد المختصين إلى أن هؤلاء من “العرب المسيحيين”. وتشير السجلات التاريخية الأوسع إلى أن معظم الموسيقيين وصناع الآلات في دارمسوق (دمشق) قبل الحرب، كانوا من أبناء الطوائف المسيحية. فعلى سبيل المثال، كان العازف البارع سليم قدمني (أو كتبني) في القرن التاسع عشر، يُوصف بأنه “مسيحي سوري أرثوذكسي”. وكعائلة نحات، ساهم هؤلاء المسيحيون في جعل دارمسوق (دمشق) مركزًا معروفًا لصناعة العود. ولا يزال للعود الدمشقي أسلوب مميز، قائم على “الحزن… والصوت المليء بالعاطفة”، ينتقل من جيل إلى جيل، بحسب أحد الباحثين في المعهد العالي للموسيقى.
ومع ذلك، فإن حرفة العود في سوريا باتت مهددة بالزوال. فقبل عام 2010، كانت البلاد تضم نحو 20 ورشة لصناعة العود، موزعة بين دارمسوق (دمشق)، حلب، وحماة. أما اليوم، فلا يتجاوز عددها الستة، منها أربع فقط في دارمسوق (دمشق). أُغلقت العديد من الورش في المدينة القديمة، ويخشى من بقي منها على مستقبله. يقول طويل: “إنها مهنة مهددة”، مشيرًا إلى تراجع السوق المحلي. فالشباب السوريون، الذين شردتهم الحرب، يفتقرون إلى الوقت أو التدريب الكافي للاستمرار في الحرفة، كما أن خشب الجوز — المادة الأساسية في صناعة ظهر العود — أصبح نادرًا في غوطة دارمسوق (دمشق). ورغم أن الأعواد الدمشقية لا تزال تلقى الإعجاب عالميًا، إلا أن الطلب المحلي تراجع إلى حدّ كبير.

داخل الورشة: قصة طوني
يُعدّ طوني طويل، البالغ من العمر 64 عامًا، من آخر صنّاع العود التقليديين في سوريا.
في دكانه الصغير وسط سوق الحرف في حي باب توما، يشرف طوني على مجموعة من الأعواد المعلّقة والأدوات المتناثرة. وكان متجره السابق، الأكبر قليلًا من الحالي، لا يتجاوز تسعة أمتار مربعة، يقع تحت قباب مجمع التكية السليمانية — وهو مجمع عثماني كان يُستخدم كزاوية صوفية.
لكن ضيق المساحة لا يمنع من خلق الجمال. إذ تصطف الأعواد المزخرفة بعناية على الجدران. وعلى الرغم من كل ما يجري خارج الورشة، لا يزال طويل يُمارس عمله الدقيق والصبور: يختار أعواد الجوز، يعرّضها للبخار، يثني كل ضلع منها يدويًا، ينحت وجه العود الخشبي بعناية، ويُركّب مفاتيح العزف المصنوعة من العاج. تعلم كل هذه الخطوات من والده إبراهيم في منزلهم بدمشق قبل عقود، وهو اليوم يعلّمها لابنته ماري.
وكحال الكثيرين في دارمسوق (دمشق)، لا يربح طويل الكثير. قبل الحرب، كان يفتح متجره عند السابعة صباحًا، ويبيع نحو 12 عودًا شهريًا. أما اليوم، فقد تمرّ أشهر دون أن يبيع عودًا واحدًا. ومع الأزمة الاقتصادية، قفزت الأسعار بشكل خيالي، بينما تراجعت القيمة الفعلية. فعودٌ كان يُباع بـ5,000 ليرة سورية، يُباع اليوم بـ700,000، أي بزيادة اسمية قدرها 14,000%، إلا أن قيمته الحقيقية تراجعت بنسبة 30% — إذ كانت 5,000 ليرة تعادل نحو 100 دولار أمريكي، أما اليوم فلا تتجاوز 0.50 دولار.
يقول طوني بحسرة: “قبل الأزمة… كان الطلب كبيرًا”. ويضيف لـ”SyriacPress”: “اليوم، يمرّ شهر دون أن أبيع شيئًا”. ومع ذلك، لا يزال شغفه بالحرفة قائمًا. يشير إلى بريق خشب التنوب والجوز، ويقول بهدوء: “أعوادنا يمكن أن تعيش 70 سنة دون صيانة. صنعت أعوادًا بجمال السجادة الفارسية”. ويجلس خلف طاولته الخبير الموسيقي عيسى عوض، الذي يؤكد أن “طريقة تجفيف الخشب الدمشقي ومعالجته” هي ما يمنح الأعواد الدمشقية هذه المتانة الأسطورية. وغالبًا ما يقول طويل لزوّاره إن العود الدمشقي الذي صُنع قبل مئة عام لا يزال يصدح بنغمة صافية حتى اليوم — شهادة على ما يسميه “أجمل أعواد عربية على الإطلاق”.

توريث الحرفة لابنته
تعلّم طوني حرفة صناعة العود من والده إبراهيم، الذي كان قد بدأ تعلّمها في خمسينيات القرن الماضي. وكان إبراهيم — وهو قريب أحد الحرفيين من عائلة نحات — مسيحيًا أيضًا. وكما هو الحال في العائلات الحرفية، نقل الأب المهنة إلى ابنه، وطوني اليوم ينقلها لابنته ماري.
ورغم أنها لا تزال في سنّ المراهقة، تعمل ماري يوميًا بعد الظهر بجانب والدها، تضع الأضلاع، تلمّع فتحات الصوت، وتحفظ نغمات العزف الشرقية المعقّدة. بالنسبة لطوني، تعليمها مسؤولية مقدسة. فـ”العود لا يزال حاضرًا في المناسبات الاجتماعية والثقافية”، كما تقول بعض المراجع، وقد “انتقل من جيل إلى آخر”. ومن خلال إدخال ابنته في هذا العالم، يضمن طوني أن التراث الدمشقي لن يُنسى عندما يجتمع السوريون مجددًا في أمسية موسيقية أو حفل زفاف.
ورغم أن ورشته بدأت تفرغ، لا يزال طويل مؤمنًا بأن الحرفة لم تنقرض. يقول: “كنا نبيع لأوروبا وكندا”. واليوم، يذكر بفخر أن بعض الحرفيين السوريين باتوا يفتتحون ورشًا لصناعة العود في مونتريال وباريس. ويضيف: “في كيبيك، هناك سوريون افتتحوا ورشًا لإنتاج العود”. ويشير إلى أن مستقبل ابنته قد يكون في سوريا أو خارجها، لكن الحرفة ستبقى. فالحفاظ عليها، كما يقول، هو “حفاظ على جزء كبير من ذاكرتنا وأركان هويتنا الثقافية”. فبالنسبة لعائلة طويل، كل ضلع جوز منحوت، وكل وتر مشدود، هو جزء من إرثهم العائلي.
موروث مسيحي في قلب الموسيقى الدمشقية
على مدى تاريخ دارمسوق (دمشق)، ساهم المسيحيون في دعم الفنون الموسيقية بشكل هادئ لكن جوهري. وقصة عائلة طويل ما هي إلا فصل من هذا الإرث. فقد كانت عائلات روم أرثوذكس مثل نحات وقدمني جزءًا من نقابات الحرفيين في المدينة القديمة، يعلّمون أبناءهم وبناتهم على حد سواء. وتشير الباحثة راشيل بيكلز ويلسون، المتخصصة في الموسيقى الشرق أوسطية، إلى أن العازف الدمشقي سليم قدمني كان من أبناء الطائفة السريانية الأرثوذكسية. كذلك، فإن عائلة نحات التي أسست صناعة العود الدمشقي تعود بجذورها إلى مجتمعات دارمسوق (دمشق) الصغرى. وهكذا، ارتبطت روح الآلة الموسيقية بهوية المدينة الدينية والثقافية.
واليوم، وبينما تحاول دارمسوق (دمشق) أن تستيقظ من ويلات الحرب، يبقى مصير تراثها الثقافي معلقًا. وقد أدرجت منظمة اليونسكو المدينة القديمة ضمن مواقع التراث العالمي، بوصفها متحفًا حيًا للعادات والحرف. وداخل هذا المتحف الحي، تعمل عائلة طويل للحفاظ على صوت واحد لا يجب أن يخبو: صوت العود الدمشقي الحنون المرتجف. إنه صوت يحمل في طياته تراثًا موسيقيًا واسم عائلة مسيحية، انتقل من الأب إلى الابن والابنة.
علماء آثار.. الآشوريون كانوا سباحين ماهرين
بريطانيا- نُقِلَ اللوح الطيني الذي يُقدر عمره بثلاثة آلاف عام، من مدينة “نمرود”…