‫‫‫‏‫يوم واحد مضت‬

عظة البطريرك مار يوحنا العاشر في جناز شهداء كنيسة مار إلياس

دارمسوق – في يوم الأحد، 25 حزيران 2025، ومع اقتراب ساعات المساء، فجّر انتحاري إسلامي نفسه داخل كنيسة مار إلياس في حي دويلعة بدمشق، فقتل 29 من المصلّين الأبرياء من أبناء الطائفة الأرثوذكسية اليونانية (الروم)، وأصاب ما يزيد عن ضعف هذا العدد بجروح. كانت هذه الجريمة رسالة مباشرة إلى جميع المسيحيين في سوريا: “لا نريدكم هنا!” كما قال بسام سعيد إسحق: “أنتم هدف، لأن رؤيتكم لسوريا هي أنها وطن لكل أبنائه.” ولأن خياركم هو دولة مدنية وشراكة وطنية حقيقية”

بالنسبة لكثير من المسيحيين السوريين، شكّلت هذه أول عملية استهداف مباشر لهم منذ سقوط نظام البعث، وحطّمت الحلم الهش بالعيش المشترك، والديمقراطية، والتعددية. إنها الرسالة ذاتها التي سبق أن حملتها الجماعات الإرهابية مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، وجميع تلك الجماعات المتطرفة التي سعت لإقامة خلافة على أساس الشريعة الإسلامية. مثل هذه الخلافة كانت ستجعل من المسيحيين “أهل ذمة”، أي مواطنين من الدرجة الثانية.

وقد تراوحت ردود الفعل على هذا الهجوم الدموي بين الغضب العميق ومحاولات التعزية، لكنها لم تُرضِ البطريرك مار يوحنا العاشر، الذي حمّل الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع المسؤولية المباشرة عمّا حدث.

وفيما يلي النص الكامل لعظته كما أُلقيت بتاريخ 22 حزيران 2025، خلال جنازة شهداء كنيسة مار إلياس.


كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في جنازة شهداء كنيسة مار الياس-دويلعة، كنيسة الصليب المقدس دمشق
24 حزيران 2025

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

المسيح قام، حقاً قام، فلنسجد لقيامته من بعد ثلاثة أيام،
أصحاب الغبطة، السادة المطارنة، الآباء الكرام، أيها الأحبة،
لقد طويت كلمتي التي كنت أعددتها لأن جثامين أحبتنا الشهداء تجعلني أخاطبكم ارتجالياً.
أنتم أيها الأحباء الشهداء تركتمونا وانتقلتم إلى السماء وإلى الحياة الخالدة في جوار السيد الذي قام من بين الأموات. استشهدتم يوم الأحد الماضي الأحد الثاني بعد العنصرة وهو الأحد الذي أقره المجمع الأنطاكي المقدس تذكاراً للقديسين الأنطاكيين. استشهدتم وانتقلتم إلى الحياة الأبدية في هذا اليوم لتكونوا مع مصف جميع القديسين الأنطاكيين الأبرار والشهداء وسائر القديسين. نتوجه إليكم اليوم. نسألكم أن تصلوا أنتم من أجلنا وقد أصبحتم في أحضان السيد.
أتوجه إلى أحبتي وإخوتي عائلات الشهداء والجرحى والمرضى والمصابين. أتوجه إليكم بالتعزية وأسأل الرب يسوع أن يحفظكم بيمينه الإلهية ويبارككم ويعزيكم ويعطيكم الصبر والسلوان. أتوجه إلى أبناء رعيتنا في مار الياس حيث تمت هذه الفاجعة. أتوجه إلى سائر أبنائنا المسيحيين في كل سوريا وفي كل مكان من العالم. أتوجه إلى كل سوري مسلماً كان أو مسيحياً في هذا البلد لأن ما حصل ليس حادثة فردية ولا تصرفاً فردياً وليس اعتداءً على شخص أو على عائلة. هو اعتداء على كل سوري وعلى كل سوريا. هو اعتداء على الكيان المسيحي بشكل خاص. لذلك، أتوجه إلى الجميع سائلاً الرب الإله أن يعزي القلوب ويقوينا ويثبتنا في إيماننا وفي كنيستنا وفي بلادنا.
يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية: “إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب أيضاً نموت”. صخرة إيماننا هي السيد القائم من بين الأموات. وشهداؤنا الذين أمامنا اليوم هم أبناء القيامة وهم في النور الإلهي. هم لم يموتوا. هم أحياء. وقد انتقلوا، ولو بهذه الطريقة البشعة، إلى من أحبوا. كانوا يصلون في الكنيسة. كانوا في القداس الإلهي. تلي الإنجيل. أي اعتداءٍ مثل هذا؟؟ في الكنيسة والناس تصلي وتقول: بسلامٍ إلى الرب نطلب. يا رب ارحم. فيتم هذا الاعتداء الآثم الذي ذهب ضحيته، حتى اللحظة، 22 شهيداً. ليست كل الجثامين أمامنا الآن لأن بعض الأهالي أخذوا شهداءهم ودفنوهم. 22 شهيداً وأكثر من 50 جريحاً. وقد قمنا البارحة بعد الصلاة في الكنيسة بتفقد الجرحى والمصابين في المستشفيات. لا ننساهم ونصلي أن يمنحهم الرب الشفاء بقوة صليبه المقدس.
ما تم هو مجزرة. أعيد وأكرر هو مجزرة. هو استهدافٌ لمكون أساسي في سوريا الغالية على قلوبنا. استهداف لكل سوري.
السيد الرئيس،
أعلمكم أن الجريمة التي تمت هي الأولى من نوعها من بعد أحداث عام 1860. والتي لا نقبل أن تحصل في أيام الثورة وفي عهدكم الكريم. هذا مدان وغير مقبول. أؤكد للجميع أننا كمسيحيين فوق كل هذه الأحداث. ولا نجعل من أمر كهذه الجريمة النكراء سبباً لإشعال فتنة وطنية أو طائفية، لا سمح الله. نحن على الوحدة الوطنية ومتمسكون بها مع كل السوريين مسلمين ومسيحيين. ونحيا ونعيش كعائلة واحدة في هذا البلد الكريم. وقد تواصل معي العديد من البطاركة ورؤساء الكنائس من كل أنحاء العالم. وتواصل معي سياسيون ورؤساء جمهورية ورؤساء حكومات ووزراء ومسلمون من هذا البلد ليعبروا عن تضامنهم معنا واستنكارهم لهذه المجزرة المروعة.
سأقولها بجرأة، نأسف سيادة الرئيس أننا لم نر واحداً من المسؤولين في الحكومة وفي الدولة عدا السيدة هند قبوات المسيحية في موقع الجريمة بعيد حدوثها. نأسف لهذا. نحن طيف أساسي مكون في هذا البلد. ونحن باقون.
تذكروا معي. تم خطف مطراني حلب بولس ويوحنا وقيل كل ما قيل. وتم خطف راهبات معلولا. ها نحن هنا دوماً. تمت الجريمة النكراء أول البارحة. وسنبقى موجودين.
نناشدكم سيادة الرئيس بحكومة لا تتلهى بإصدار قرارات لا داعي لذكرها من هذا الباب الملوكي المقدس. نناشدكم بحكومة تتحمل المسؤولية وتشعر بأوجاع شعبها.
سيادة الرئيس، الشعب جائع. إذا كان البعض لا يقول لك هذا. أنا أقوله.
السادة أعضاء الحكومة، الناس تأتي وتدق باب كنائسنا وتطلب ثمن ربطة خبز!!
بكل محبة وبكل احترام وتقدير، سيادة الرئيس، تكلمتم البارحة هاتفياً مع سيادة الوكيل البطريركي لتنقلوا لنا عزاءكم.
لا يكفينا هذا. أنتم مشكورون على المكالمة الهاتفية. ولكن الجريمة التي تمت هي أكبر وتستحق أكثر من مكالمة. نأمل أن تعمل الحكومة على إنجاح أهداف الثورة التي هي كما قلتم وقال الجميع: الديمقراطية، الحرية، المساواة والقانون. هذا ما ننتظره وما نريده وما نعمل من أجله.
سأقولها. قيل لنا؛ ستعلن الحكومة يوم حدادٍ رسمي عام في الدولة. السيد الرئيس أعلنوا هذا اليوم لا يوم حدادٍ. نحن كمسيحيين لا نريد لأحد أن يتباكى علينا. أراه جميلاً أن تعلنوا هذا اليوم يوم حدادٍ على الحكومة.
هؤلاء الشهداء. ليسوا كما قال بعض المسؤولين. ليسوا قتلى. وليسوا من “قضَوا”. إنهم شهداء. وأتجرأ أحبتي وأقول: إنهم شهداء الدين والوطن.
يهمنا أن نعرف من يقف وراء هذا الفعل الشائن. ووعدنا بذلك. ولكن ورغم هذا. يهمنا هذا بمقدار. ولكن يهمنا أن نؤكد؛ وسأقولها، أن الحكومة تتحمل كامل المسؤولية.
ما يريده شعبنا هو الأمن والسلام. وأولى مهام الحكومة تأمين الأمان لكافة المواطنين دون استثناء ودون تمييز.
سيادة الرئيس،
لقد هنأنا بالثورة وبانتصارها في كلماتنا كلها. قد هنأناكم شخصياً. وعندما صرتم رئيساً للبلاد هنأناكم وقمنا بكل ما يجب القيام به لأننا أبناء هذه البلاد. نحن سوريون مواطنون أصيلون. بلادنا هي أرضنا وكرامتنا. وقلنا وسأعيدها وأقول: إننا مددنا أيدينا إليكم لنبني سوريا الجديدة ولا زلنا، ويا للأسف، ننتظر أن نرى يداً تمتد إلينا.
نصلي أيها الأحباء من أجل شهدائنا وجرحانا وعائلاتهم. نصلي من أجل بلادنا ومن أجل العالم أجمع. نصلي كي تكون سوريا القادمة علينا تلك “السوريا” التي يحلم بها كل سوري.
دخل هذا المجرم الكنيسة بسلاحه وبالمتفجرات إلى الكنيسة. رآه شبابنا جريس وبطرس وميلاد وأنا أعرفهم شخصياً. سحبوه ودفعوه إلى الوراء وارتموا عليه. وقبِلوا أن يصيروا أشلاء، وصاروا أشلاء ليحموا من كان في الكنيسة. هذا هو شعبنا وأبطالنا. صاروا أشلاء ليحموا، على ما قيل لي، 250 شخصاً كانوا في الكنيسة.
أمام هذا الشعب المسيحي البطل أؤكد وأقول: نحن لانخاف ونتابع المسيرة.
أمام عظمة هذا المشهد، أختم وأقول: لكانوا فعل الأمر ذاته وحموا الناس الذين حولهم حتى ولو كانوا في المسجد.
صلواتنا من أجل شهدائنا ونطلب صلواتهم من حيث هم في النور الإلهي من أجلنا.
يقول الرب في الإنجيل: ثقوا قد غلبت العالم. ويقول أيضاً: أنا في وسطها فلن تتزعزع.
شكراً للجميع. وليحمكم الرب، هو المبارك إلى الأبد آمين.

‫شاهد أيضًا‬

مسد.. الحوار وإشراك كافة المكونات هما السبيل لدعم الاستقرار في سوريا

شمال وشرق سوريا- على خلفية اجتماعه الدوري الذي عقده في مدينة الحسكة بإقليم شمال وشرق سوريا…