‫‫‫‏‫يومين مضت‬

عروض فيلم السيفو “أرواح عابرة” تشعل تأملات مجتمعية مؤثرة

بقلم: ليا مقسي-سهدو

“هل كان قدرك أن ترى هذا العذاب… ثم تدير ظهرك بصمت؟” 

هذا السؤال المؤلم ظل يتردد في قلوب كل من شاهد فيلم أرواح عابرة، وبعد انتهاء العرض، لم يكن مجرد تساؤل، بل بدا كأنه وصية موجّهة إلى أحفاد الناجين من مجازر السيفو. أولئك الذين تمتد جذورهم إلى تاريخ مشبع بالعنف الذي لا يُوصَف. بالنسبة إليهم، لم يكن السؤال للمراجعة أو التأمل الصامت. بل كان نداءً للذاكرة، للكلمة، ولحمل إرث أمة ترفض أن تُنسى. 

لماذا؟ لأن المخرجة قالتها بوضوح: “من دون الاعتراف، لن تتوقف الإبادة.” لم تقل “لم تتوقف”، بل قالت “لن تتوقف”. فالأمر لا يتعلق فقط بما حدث في الماضي، بل بما لا يزال يحدث عندما يصمت العالم. فالصمت لا يُداوي جراح التاريخ، بل يعمّقها. 

شهدت الولايات المتحدة عرضين للفيلم – الأول في نيوجيرسي والثاني في ماساتشوستس – جُمِع خلالهما أفراد المجتمع السرياني (الآرامي–الآشوري–الكلداني). للحظات، تلاشت التسميات والانتماءات، وبرز صمت مشترك، حداد جماعي، وألم عميق يتردد صداه في الوجدان. كان الفيلم بمثابة شرارة متجددة للأمل والصمود في مستقبل هذا الشعب، وتذكيرًا بأن خيط البقاء لم ينقطع.



عرضان، وجُرح مشترك 

في 15 حزيران/يونيو، استضافت سينما “تيانيك” في نيوجيرسي العرض الأول، بحضور أعضاء من ثلاث كنائس سريانية أرثوذكسية: كاتدرائية مار مرقس، كنيسة السيدة العذراء، وكنيسة مار جبرائيل. وبعد يومين، عُرض الفيلم في سينما “ريغال” بمدينة مارلبورو في ماساتشوستس، بتنظيم رئيسي من كنيسة السيدة مريم السريانية الأرثوذكسية. 

لم تكن هذه العروض مجرد مشاهدة أفلام، بل لحظات جماعية شارك فيها الشيوخ والراشدون والشباب. وكان التفاعل الشبابي ملفتًا، ما أظهر الدور المحوري الذي تلعبه الأجيال الصاعدة في حفظ التاريخ من النسيان وضمان عدم تكرار مجازر السيفو. 

مهمة المخرجة: شجاعة في قول الحقيقة 

أيدا شليفر، المخرجة العراقية الأصل التي تقف وراء فيلم أرواح عابرة، ليست من أبناء المجتمع السرياني. هي مسلمة، وقد اختارت تبني هذه القصة من منطلق إنساني، لا ديني أو عرقي. تصف نفسها بأنها “طفلة ما بعد الحرب”، وتقول بوضوح إن الاعتراف بهذه الفظائع واجب إنساني. 

ورغم أن غالبية أفراد الجالية السريانية في المهجر يعيشون اليوم بأمان، فإن أسلافهم شُرّدوا بوحشية من أوطانهم. حتى ايدا نفسها واجهت مخاطر حقيقية أثناء تصوير الفيلم، عاكسةً التهديدات ذاتها التي أجبرت شعبنا على الهروب. 

قالتها مرارًا: “من دون الاعتراف، لن تتوقف الإبادة.” هذه العبارة تَسري في الفيلم، وتُحرّك كل من يشاهده. 

كلمات لا تُنسى: اقتباسات من الفيلم 

يتجاوز فيلم أرواح عابرة مجرد استعراض للفظائع؛ إنه تأمل في الذاكرة. من يُسجِّل التاريخ؟ ومن يُسمَح له بأن يُخلّد؟ ترى المخرجة أن في غياب الوثائق الرسمية، تصبح روايات الناجين هي الوثيقة الحقيقية. “أصواتهم هي الوثائق”، كما قالت، مؤكدة أن الشهادة الحية أقوى من أي أرشيف مكتوب. 

الفيلم يضع العالم أمام مفترق: هل نتجاهل هذه الأصوات كأنها صدى ماضٍ؟ أم نُدرك أنها دليل حيّ يطالب بالعدالة والاعتراف؟ 

كما قال الفيلم: “العالم يستمع… ويرد بالصمت”. وصمت العالم ليس مجرد غياب، بل تواطؤ. 

انعكاسات من عرض ماساتشوستس 

في العرض الذي أُقيم في ماساتشوستس، تحدثت ملاك مسعود – شابة سريانية معروفة على منصة إنستغرام من خلال حسابها @SyriacMalaak حيث تُدرّس اللغة الطورية – عن الأثر العاطفي العميق الذي تركه الفيلم عليها وعلى الحاضرين. انتقلت ملاك من مدينة القامشلي السورية إلى الولايات المتحدة، وأكدت أن الفيلم ليس فقط درسًا في التاريخ، بل تذكير قوي بأهمية حفظ اللغة والهوية الثقافية. 

قبل بدء العرض، تحدثت عدة شخصيات للمساهمة في ربط الماضي بالحاضر: 

الدكتورة إليز سيمردجيان، مؤرخة متخصصة في الإبادة الأرمنية، تناولت معاناة الأرمن والآشوريين المشتركة تحت الحكم العثماني، وأشارت إلى مفهوم “الصدمة الوراثية” – أي أن معاناة الأجداد تُخزن في جينات الأحفاد وتؤثر في حياتهم اليوم. 

كما تحدثت راما حنا من لجنة النساء عن الإرث الذي يسلّط الفيلم الضوء عليه – إرث لا يعيش في الماضي فقط، بل في قلوب الجالية. ووصفت ذلك بأنه “فخر متجدد بالجذور”، و”مسؤولية تجاه من سبقونا”. 

حزن صامت وشفاء جماعي 

فتح الفيلم جراحًا لطالما ظلت صامتة في كثير من البيوت. كانت المشاهد قاسية، لكن صدقها الخام خلق مساحة للشفاء. 

بعد العروض، انطلقت الأحاديث والذكريات. أحد الرجال من نيوجيرسي شارك بشجاعة قصة خطف جدته ونجاتها المعجزة – قصة لم يروها كثيرًا من قبل. 

هذه اللحظات قربت بين الناس، ونسجت من الألم المشترك قوة جماعية. شوهد الشباب بعد العرض يتحاورون في مجموعات عن السيفو، وعن مستقبل الذاكرة الجماعية لهذا الحدث. 

أرواح عابرة: تمهيد الطريق لشعبنا 

بيّن الفيلم وحدة مجتمع متنوّع رغم خلفياته الطائفية واللغوية المختلفة. لم يقتصر الحضور على السريان الأرثوذكس، بل شمل أيضًا أبناء كنيسة المشرق الآشورية. حتى أصدقاء من كونيتيكت جاؤوا للمشاركة، ما دلّ على تضامن يتجاوز الحدود العقائدية والتاريخية 

أرواح عابرة سلط الضوء على حقيقة أوسع: أن شعب السريان (آراميينآشوريين- كلدان) هم أمة واحدة يجمعها تاريخ مشترك. 

الاعتراف لا بد أن يبدأ من داخلنا، من أصواتنا نحن. عروض هذا الفيلم كانت تذكيرًا قويًا بأننا برهان حي على النجاة. 

اللغة، والذاكرة، ورواية القصة ليست فقط أعمال حفظ… بل أعمال مقاومة. 

وكما لخّص أحد الحاضرين: “السيفو ليس مجرد تاريخ… بل مهمة”. 

‫شاهد أيضًا‬

فضائية سورويو تحتفل بالذكرى السنوية الحادية والعشرون لانطلاقتها

زالين/ سودرتاليا — بعد الخطوة التي اتخذها نضال الحرية بفتح قناة سريانية، في الخامس من تموز…