‫‫‫‏‫6 ساعات مضت‬

اختفاء المسيحيين في ظلّ نظام الأسد 

دارمسوق (دمشق) –  تُقيم مطرانية الروم الأرثوذكس في درعا، يوم السبت 5 تموز 2025، قداسًا جنائزيًا خاصًا عن نفس الصحفي الراحل جوزيف متري الجوابرة، الذي أُعدم على يد النظام السوري في عام 1982، وذلك تكريمًا لحياته وإحياءً لذكراه. وستُقام الصلاة أيضًا عن نفسي قريبيه ورفيقيه، حنا العيد وعيسى الجوابرة، اللذين أُعدما معه، وسُجنوا بسبب كلماتهم، ودُفعوا حياتهم ثمنًا لصراحتهم. الوثيقة التي تثبت تنفيذ حكم الإعدام بحقهم، والتي كانت مدفونة في أرشيف النظام لسنوات، ظهرت إلى العلن في وقت سابق من هذا العام، مؤكدةً ما كان الكثير من المسيحيين يعتقدونه دون القدرة على إثباته. 

لكن هذه المراسم الدينية تتجاوز الطقوس الروحية، فهي فعل نادر من التذكّر العلني في بلدٍ لا تزال أشباح المختفين فيه تطارد ذاكرته الجماعية. 

منذ صعود عائلة الأسد إلى السلطة في سبعينيات القرن الماضي، اختفى مئات المسيحيين—من صحفيين وكهنة وشخصيات سياسية ومواطنين عاديين—في أقبية سجون النظام، دون أثر. تُركت عائلاتهم في ظلام الانتظار، محرومة من دفن أحبّتها أو المطالبة بالعدالة، فيما كانت الكنائس تهمس بصلوات للمفقودين خلف الأبواب المغلقة. واليوم، بدأ هذا الصمت يتصدّع. 

من أبرز حالات الاختفاء في أوساط السريان كانت حالة سعيد ملكي، النائب السابق لرئيس حزب الاتحاد السرياني. اعتُقل ملكي في مطار القامشلي في 12 آب 2013، ولم يُوجَّه إليه أي اتهام رسمي، ولا تزال أخباره منقطعة حتى اليوم، بعد أكثر من عقد. قضيته، كما كثير من الحالات، تذكير مروّع بأن حتى المعارضة السلمية لم يكن لها مكان في نظام الأسد. 

ولا يزال مصير المطرانين يوحنا إبراهيم (مطران السريان الأرثوذكسي) وبولس يازجي (مطران الروم الأرثوذكس)، اللذين اختُطفا قرب مدينة حولب (حلب) في 22 نيسان 2013، مجهولًا حتى اليوم، رغم الضغط الدولي المتواصل. وتشير الشكوك إلى تورط النظام بشكل مباشر أو غير مباشر في العملية. 

بعد سقوط النظام في كانون الأول 2024، حصل صحفيون استقصائيون ومنظمات حقوقية على وصول غير مسبوق إلى أرشيف المخابرات. من بين الوثائق، وردت مذكرة صادرة في حزيران 2012 تؤكد وفاة عدد من المعتقلين أثناء احتجازهم، ودفنهم دون إعلام عائلاتهم. ورغم أن الأسماء كانت مشطوبة، إلا أن مقارنة الوثائق بشهادات شهود العيان وسجلات المستشفيات كشفت عن وجود عشرات المسيحيين بين الضحايا. 

وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، يُقدّر عدد المختفين قسرًا في سوريا بأكثر من 100,000 شخص، بينهم آلاف من الطوائف المسيحية. النظام كان يصوّر نفسه حاميًا للمسيحيين، لكن الوثائق والشهادات تُظهر أن تلك “الحماية” كانت مشروطة، وأن من تجرأ على رفع صوته، خضع للقمع والاختفاء. 

وفي الواقع، وثّقت الشبكة نفسها أن 61% من الهجمات على أماكن العبادة المسيحية منذ عام 2011 نفذها النظام أو ميليشياته، إما بشكل مباشر أو عبر وكلاء. تعرّضت كنائس في حموث (حمص) وحولب (حلب) للقصف والنهب والتحويل إلى ثكنات عسكرية. 

كما نصّ المرسوم رقم 22 لعام 2012 على إعدام كل من يُشتبه بتعاونه مع جهات أجنبية. واستُخدم هذا القانون لسحق حرية التعبير. وتشير التقارير إلى أن ما لا يقل عن 181 صحفيًا—بينهم سريان وأرمن—قُتلوا تحت التعذيب أو أُعدموا، فيما لا يزال مصير آخرين مجهولًا. 

من بينهم الصحفي جوزيف متري الجوابرة، الذي دفعت مقالاته الثمن الأعلى، حيث أُعدم بأمر من حافظ الأسد. وقد أكدت وثيقة أمنية وشهادات جديدة صحة مقتله، وهو ما أعاد فتح جرحًا عميقًا لدى أجيال بأكملها من السوريين.



اليوم، تتقدم منظمات سريانية، مثل مجلس بيث نهرين القومي، المطالبات بالمحاسبة. وبالتعاون مع مجموعة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري، جمعت هذه المنظمات شهادات، واستخرجت وثائق، وتُطالب بتعويضات ومحاكمات للمتورطين. وهدفهم ليس الانتقام، بل الحقيقة والذاكرة. “الخطوة الأولى نحو العدالة”، كما يقول أحد الناشطين، “هي أن ننطق بأسماء المنسيين”. 

إن سقوط النظام فتح نافذة حرجة، لكنها مؤقتة. فللمرة الأولى، بات لدى الإعلام الحر ومنظمات المجتمع المدني إمكانية الوصول إلى السجون والمقرات السرية. لكن المخاوف تتزايد من أن يغلق هذا الباب قريبًا، بسبب الفوضى أو تبدّل المعادلات السياسية. 

ومع شروع سوريا في الإصلاح الدستوري ومسار ديمقراطي هشّ، يجب أن يكون مصير المختفين في صلب أي مصالحة وطنية. لا يمكن لأي حكومة جديدة أن تدّعي الشرعية، بينما تبقى آلاف الأرواح مجهولة المصير. 

هذا يشمل جوزيف الجوابرة، سعيد ملكي، المطرانين إبراهيم ويازجي، حنا العيد، وعيسى الجوابرة—كلهم أسماء تُدوّي في ممرّات الذاكرة السورية المنسيّة. 

بالنسبة للمجتمع المسيحي، فإن القداس الذي سيُقام في درعا ليس فقط لتأبين الضحايا، بل هو فعل مقاومة ضد النسيان. هو صلاة من أجل عودة العدالة. هو صرخة علنية بأن هذه القصص، التي دُفنت لسنوات، لن تُدفن بعد اليوم. 

إن أرادت سوريا النهوض، فيجب أن تُصغي لهذه الأسماء. 

‫شاهد أيضًا‬

اعتقال إسماعيل عبدو أحد أخطر متزعمي الشبكات الإجرامية في أضنة بتركيا

السويد- وُلِدَ “عبدو” عام ألف وتسعمائة وتسعين، لأم تركية وأب لبناني، ونشأ في &…