06/07/2025

جامعة نصيبين السريانية: منارة المعرفة في العصور القديمة المتأخرة

تُعدّ جامعة نصيبين السريانية إحدى أقدم المؤسسات التعليمية في التاريخ، ومنارة علمية أضاءت دروب المعرفة خلال العصور القديمة المتأخرة. تأسست في مدينة نصيبين، ضمن حدود الإمبراطورية الرومانية، في أواخر القرن الرابع الميلادي، لتصبح مركزًا حضاريًا يعكس تفاعل الثقافات والديانات. في هذا المقال، نستعرض تاريخ هذه الجامعة العظيمة، مناهجها التعليمية، إسهاماتها الفكرية، ودورها الريادي في صياغة التراث السرياني. 

 تأسيس الجامعة وتطورها الأولي 

أسس الأسقف يعقوب النصيبيني جامعة نصيبين في أواخر العقد الرابع من القرن الرابع، تزامنًا مع اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية. كانت الجامعة مركزًا لتطوير العلوم الدينية والدنيوية، مع تركيز خاص على دراسة تفسير الكتاب المقدس، الخطابة، الفلسفة، اللاهوت، وقواعد اللغة والخط السرياني. تميزت في بداياتها بالالتزام بالفكر المسيحي الأصيل، مما جعلها مركزًا للمعرفة الصحيحة.
من أبرز تلاميذ الجامعة مار أفرام السرياني، الذي تولى إدارتها بعد وفاة مؤسسها يعقوب النصيبيني عام 325 م. كما برز مار آبا الأول، الذي تلقى تعليمه فيها قبل أن ينتقل إلى سلوقية قرب طيسفون ليؤسس مدرسة هناك، مما يعكس الإشعاع الفكري لنصيبين. 

 نظام تعليمي متميز 

اشتهرت جامعة نصيبين بنظامها التعليمي المنظم، حيث وضعت 21 قاعدة تحكم سلوك الطلاب والأساتذة، مما جعلها نموذجًا رائدًا في التعليم العالي. في القرن السادس، أُضيف إلى هذه القواعد الاهتمام بالرعاية الصحية، حيث أُلحق بالجامعة مستشفى للعناية بالطلاب والهيئة التدريسية، في خطوة متقدمة تربط بين التعليم والصحة.
استضافت الجامعة أيضًا أول مكتبة في العصور القديمة المتأخرة، حيث كلّف طلاب بارعون في الخط السرياني بنسخ مؤلفات كبار العلماء مثل أفراهاط الحكيم ومار أفرام السرياني. لعبت هذه المكتبة دورًا حيويًا في حفظ المعرفة ونقلها عبر الأجيال. 



 التحديات الفكرية والازدهار 

في عام 363 م، وبعد سيطرة الفرس على نصيبين، توقفت الجامعة مؤقتًا عن العمل. انتقل مار أفرام السرياني وبعض الأساتذة إلى مدينة الرها، حيث أسسوا مدرسة الرها العليا التي واصلت نهج نصيبين. لكن الجامعة أعيد فتحها عام 491 م بجهود الشاعر نرساي وبرصوما، لتدخل مرحلة جديدة من الازدهار.
في عهد نرساي، وصل عدد الطلاب إلى 800 طالب، واستمرت الدراسة بين سنتين وثلاث سنوات. تطورت المناهج مع التركيز على كتابات ثيودورس المصيصي في اللاهوت، لكن هذه الفترة شهدت جدلًا بسبب ميل الجامعة نحو الأفكار النسطورية. اعتبر المجمع المسيحي عام 585 م هذه الأفكار منحرفة، مما دفع مار يعقوب السروجي للرد عليها بشعر دقيق يعبر عن عمق الفكر المسيحي. 

 إرث ثقافي خالد 

رغم التحديات، تركت جامعة نصيبين بصمة عميقة في التاريخ. أنجبت علماء وشعراء مثل إلى جانب مئات المؤلفات الدينية والدنيوية والقصائد التي أثرت التراث السرياني. ساهمت في الحفاظ على اللغة السريانية إلى جانب العربية واليونانية، مما جعل السريان شركاء رئيسيين في البعثات الدبلوماسية للسلطة الفارسية.  

استمرت الجامعة حتى منتصف القرن السابع، وظل إرثها حيًا من خلال انتقال المعارف عبر الأجيال. حافظ المشرقيون في بلاد مابين النهرين على اللغة السريانية والثقافة الحضارية حتى العصر الحديث، رغم النكسات بين القرن الثالث عشر والعشرين. 

 نصيبين: أم العلوم 

أُطلق على نصيبين لقب “أم العلوم” و”مدينة المعارف” لدورها الريادي في نشر العلم والثقافة. جنبًا إلى جنب مع جامعة جنديشابور، شكلت نصيبين مركزًا للنهضة الفكرية التي مهدت لفجر حضاري للسريان في العراق. يبرز هذا الإرث أهمية الجامعات في بناء الحضارات، حيث كانت نصيبين منارة علمية بين القرن الرابع والسابع. 

 الخاتمة 

لم تكن جامعة نصيبين السريانية مجرد مؤسسة تعليمية، بل مركزًا للتلاقح الثقافي والفكري. من خلال مناهجها المتقدمة، قوانينها المنظمة، وإسهامات علمائها، ساهمت في تشكيل الهوية الثقافية والدينية للمنطقة. يظل إرثها شاهدًا على قدرة العلم على تجاوز الحدود الزمنية والجغرافية، ليبقى مصدر إلهام للأجيال القادمة.

‫شاهد أيضًا‬

ميليشيا كتائب سيد الشهداء تتحدّى السوداني… ورئيس الوزراء العراقي يقيل قادة في الحشد الشعبي بعد هجوم دموي

بغداد – في تصعيد جديد يسلّط الضوء على الانقسام العميق حول ملف السلاح في العراق، رفضت ميليش…