الإبداع الكنسي بين السريانية والعربية
بلمند، لبنان – تخيّل أن تفتح مخطوطةً يعود تاريخها إلى قرون خلت، فتقع عيناك على ثلاث لغات متشابكة في صفحة واحدة: صلوات سريانية مكتوبة بخط أنيق، وترجمات عربية متداخلة بين السطور، وتعليقات يونانية مبعثرة في الهوامش. ليس هذا نتاج ارتباك من النُسّاخ، بل يُعدّ حلاً بارعًا، أبدعه مجتمع ديني وجد نفسه في خضم أحد أهم التحولات اللغوية في التاريخ.
شهدت بطريركية أنطاكية للروم الأرثوذكس خلال الألفية الأولى من تاريخها تحولًا لغويًا عميقًا. فقد بدأت ككنيسة ناطقة باليونانية، واحتضنت إلى جانبها السريانية، لكنها تدرّجت شيئًا فشيئًا نحو العربية مع اتساع رقعة انتشارها في المنطقة بعد التوسع الإسلامي في القرن السابع. وبحلول القرن التاسع عشر، كانت السريانية قد اختفت تقريبًا من الحياة اليومية للكنيسة، بعد أن كانت تتردّد أصداؤها في أروقة الأديرة وكنائس الرعايا، ثم خفت صوتها إلى حدّ الصمت.
غير أن القصة لا تنتهي هنا. بل تتخذ منحًى مثيرًا للاهتمام. فالمخطوطات التي تعود إلى القرنين الرابع عشر والثامن عشر تكشف عن إبداع استثنائي، حيث طوّر النُسّاخ استراتيجيات متقدمة لصون التقاليد القديمة، مع جعلها في متناول المجتمعات التي باتت تتحدث العربية كلغتها اليومية. وقد برزت الأوساط الرهبانية كحاميةٍ للتراث السرياني، عبر نظام دقيق حافظت من خلاله على السريانية كلغة للصلوات الكهنوتية والأسرار المقدسة، في حين أصبحت العربية وسيلة التواصل مع المؤمنين والعلمانيين.
تُظهر هذه المخطوطات أنماطًا لغوية فريدة تتحدى الفرضيات التقليدية حول تحوّلات اللغة في المجتمعات الدينية، وتكشف كيف يمكن للتقاليد والابتكار أن يتعايشا بطرق غير متوقعة. ومن أبرز هذه الشواهد المخطوطة HMTR 00026، وهي كتاب قراءات وتعليق إنجيلي يعود إلى القرن السابع عشر، نُسخ في دير حماطورة بلبنان عام 1605 على يد الكاتب عيسى.
في الصفحات 20v و21r، نلاحظ بوضوح عملية “التحوّل اللغوي”، حيث ينتقل الكاتب بسلاسة بين السريانية والعربية داخل النص الواحد. فاسم “يوحنا” يُكتب أولًا بالسريانية بخط أنيق، ثم يعود ليظهر بالعربية بعد أسطر قليلة.
اقرأ المقال الكامل لإيلي ضناوي باللغة الإنجليزية هنا: When Scribes Switched Languages: Curious Patterns in Syriac Rūm Orthodox Manuscripts” by Elie Dannaoui”
هي براعة ثنائية اللغة في أعلى تجلياتها؛ إذ لا تكتفي اللغتان بالتجاور على الصفحة نفسها، بل تتداخلان ضمن المقاطع بشكل طبيعي ومتناغم. وتشير هذه الانتقالات السلسة إلى أن السريانية والعربية تمتعتا معًا بمكانة متساوية في الحياة الدينية، ما أتاح تجربة روحية ولغوية مزدوجة تُكامل بين التراث السرياني العريق والممارسة العربية الناشئة، دون أن تكون واحدة منهما على حساب الأخرى.
وهكذا، بدلاً من أن تتخلّى الكنيسة عن تراثها اللغوي المتعدد، عمدت المجتمعات الأرثوذكسية الرومية إلى تطوير حلول مبتكرة تكرّم التقاليد وتلبي في الوقت نفسه الحاجات العملية للمؤمنين.
دير مار إلياس شويه البطريركي… معلم روحي وتاريخي شامخ في قلب لبنان
شويه، لبنان ─ يُعد دير مار إلياس شويه البطريركي، أحد أقدم وأهم المعالم الروحية والتاريخية …