‫‫‫‏‫13 ساعة مضت‬

قننشري: عُش النسر حيث التقت العوالم وعلت المعرفة

حولوب (حلب)، سوريا — تخيل مكانًا هادئًا على ضفاف نهر الفرات من قرون مضت _ دير يُدعى قننشري، وتعني بالعربية “عش النسر” _ بعيدًا عن صخب المدن الكبرى وضجيج الإمبراطوريات، كان هذا المكان ملاذًا حيث ارتفعت الأفكار، وامتزجت بالإيمان والفلسفة، وجماعة صغيرة من الرهبان جمعوا بين حفظ كنوز الحكمة القديمة، ونقلها للأجيال.

 مولود من المنفى، ومبني ليبقى

تبدأ قصة قننشري في القرن السادس الميلادي، في وقت سادت فيه التوترات الدينية، وصارت حياة بعض المجتمعات المسيحية في الإمبراطورية البيزنطية معرضة للخطر.

فرّت مجموعة من الرهبان الناطقين بالآرامية من اضطهادهم في أنطيوخ (أنطاكيا) _ والتي تقع في تركيا الحالية _ واستقروا قرب مدينة يوروبوس الرومانية القديمة، على الحدود الشرقية للإمبراطورية.

بقيادة العالم يوحنا بار أفتونيا، أسس هؤلاء الرهبان دير قننشري، الذي سرعان ما تحول إلى منارة للعلم والثقافة على مدى قرون.

لكن قننشري لم يكن ديرًا عاديًا، إذ كان مكانًا للصلاة والتعبد، وفي الوقت نفسه، مركزًا فكريًا نابضًا، كان رهبانه يتقنون اليونانية والآرامية، وكانوا شغوفين بالمعرفة — بالحفاظ على حكمة الفلاسفة والآباء الأوائل للكنيسة ونقلها.

 فن الترجمة: أكثر من مجرد كلمات

كان من أبرز إنجازات قننشري التفاني في الترجمة، إذ ترجم الرهبان نصوصًا يونانية في الفلسفة واللاهوت والمنطق والعلوم إلى الآرامية بدقة وعناية، لكن الترجمة لم تكن مجرد نسخ حرفي، بل كانت إعادة إحياء. فسرّ الرهبان هذه الأفكار ودمجوها في تقاليدهم الدينية والثقافية، وخلقوا شيئًا جديدًا وحيويًا.

كان هذا العمل حيويًا في زمن انقسام الإمبراطورية الرومانية وصعود قوى جديدة، وساعدت ترجمات أعمال أرسطو مثل الفئات والتحليلات، على بناء إطار فكري لا فقط للمسيحية الآرامية، بل أثرت أيضًا لاحقًا على العصر الذهبي الإسلامي، وكان قننشري جسرًا عبر الإرثُ الكلاسيكي من خلاله بين الثقافات والأزمان.



  المعلمون والقادة والإرث 

كان قننشري أكثر من مركز علمي، كان مهدًا للقادة، فكثير من الرهبان الذين درسوا فيه، أصبحوا أساقفة وبطاركة ومفكرين مؤثرين، منهم يعقوب الرهاوي المعروف بمهارته اللغوية وبصيرته اللاهوتية، والبطريرك أثناسيوس الثاني، الذين حافظوا على تقاليد الكنيسة السريانية الغربية.

امتد تأثير الدير إلى أبعد من جدرانه، وحفظ سجلات وأحداثًا استخدمها المؤرخون كمصادر مهمة، ورغم تقلبات السياسة، ظل قننشري منارة ثقافية وسط المتغيرات.

 المحن والانحسار

لكن، كما هو حال الكثير من مراكز العلم عبر التاريخ، لم يكن قننشري محصنًا من الصراعات، ففي أوائل القرن التاسع، تعرض لهجوم عنيف _ على الأرجح من قبل متمردين محليين ضد حكم العباسيين _ فتضرر الدير واضطر رهبانه للفرار.

رغم إعادة بناء الدير بأمر من البطريرك ديونيسيوس الأول، لم يستعد قننشري بريقه القديم، وتراجع تدريجيًا حتى اختفى في القرن الثالث عشر.

لكن قصته لم تُمحَ، إذ ما زالت أصداء إنجازاته الفكرية حاضرة في المخطوطات والتقاليد التي ساهم في حفظها، مؤثرة على العلماء في الشرق الأوسط وخارجه.



لماذا نذكر قننشري اليوم؟

في عالمنا المعاصر، حيث تبدو الصراعات الثقافية والدينية لا تُحل، يقدم لنا قننشري درسًا مهمًا، ويذكّرنا بأن الحوار بين الحضارات ليس فقط ممكنًا، بل ضروريًا، هنا كان مكان التقاء الإيمان بالعقل، حيث حرص العلماء على فهم وترجمة الأفكار عبر اللغات والمعتقدات، واعتبروا المعرفة إرثًا مشتركًا، تتوجب حمايته ونقله.

في زمن تلاشت فيه الكثير من مراكز المعرفة أو دُمرت، وقف قننشري شاهدًا على قوة العلم _ حصنًا هادئًا، حلّق فيه نسر الحكمة فوق عواصف الصراعات.

تَذَكُّر قننشري يعني أن نحتفي بالفضول والتواضع والانفتاح، ويشجعنا على بناء الجسور رغم الانقسامات، والاعتراف بأن الحكمة مُشتَرَكَةُ المصدر، في مختلف الأزمان والثقافات.



 

‫شاهد أيضًا‬

الاحتفال بالذكرى السنوية الثامنة لافتتاح كنيسة القديس مار إلياس الحي في عامودا

عامودا، سوريا — ترأس نيافة المطران مار موريس عمسيح، مطران أبرشية الجزيرة والفرات للسريان ا…