الحضور المسيحي والكنائس في دارمسوق (دمشق): نبضٌ خافت لتاريخٍ عريق
لطالما كان قلب العاصمة السورية دارمسوق (دمشق)، مدينة تتعالى فيها أجراس الكنائس من كل زاوية، شاهدة على تاريخ مسيحي ضارب في القدم. ومع أن هذا النبض قد خفت اليوم، إلا أنه لا يزال حيًا، يروي قصة قرون من الوجود المسيحي في المدينة.
قبل اندلاع النزاع السوري، كان المسيحيون يشكّلون حوالي 7% من سكان البلاد. وبحلول عام 2025، تقلّصت نسبتهم إلى نحو 2% فقط. ومع ذلك، تواصل الطوائف المسيحية حضورها في العاصمة، وتشمل: الروم الأرثوذكس، السريان الأرثوذكس، الأرمن الأرثوذكس، والطوائف الكاثوليكية الشرقية (الملكيون، السريان الكاثوليك، الأرمن الكاثوليك، السريان الموارنة، الكلدان)، إضافة إلى جماعات بروتستانتية صغيرة (خصوصًا الإنجيلية والمشيخية) وبعض الرعايا اللاتينية.
تتمركز هذه الطوائف غالبًا في الأحياء القديمة مثل باب توما وباب شرقي، حيث تنتشر الكنائس التاريخية التي تعكس قرونًا من التعايش الإسلامي–المسيحي. ورغم تراجع أعداد المصلين نتيجة الهجرة خلال سنوات الحرب، ظلّت الكنيسة موئلًا للثبات، إذ يقول أحد السكان: «لم نسمح يومًا لشيء أن يفرقنا، ولن نبدأ الآن».
منذ تولي أحمد الشرع رئاسة الدولة أواخر 2024، أعلنت الحكومة التزامها بحماية دور العبادة المسيحية، واعتبرت الاعتداء عليها تهديدًا لـ “التعايش الوطني”. وقد عادت الكنائس، بمساندة من قوات الأمن والمتطوعين، إلى إقامة الصلوات تحت إجراءات مشددة.

بطريركية الروم الأرثوذكس: قلب ينبض منذ أنطاكيا
تُعد بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس أكبر الطوائف المسيحية في سوريا، وقد انتقل مقرها إلى دارمسوق (دمشق) في القرن الرابع عشر بعد سقوط أنطاكيا. من أبرز معالمها كاتدرائية المريمية، الواقعة على الشارع المستقيم الذي عبر فيه بولس الرسول. الكاتدرائية التي تعود جذورها إلى القرون 4–7م، أعيد بناؤها عام 706م في العهد الأموي، ودُمّرت خلال صراعات عام 1860، ثم شُيّدت بحلتها الحالية في القرن التاسع عشر. تضم الكاتدرائية مقر البطريرك الحالي يوحنا العاشر يازجي، إلى جانب كنائس فرعية مكرسة للقديسة كاترين والقديسة تقلا.
أما كنيسة مار إلياس في حي دويلعا، فتُعد من المعالم الحديثة المهمة. شهدت في حزيران 2025 هجومًا إرهابيًا أثناء القداس، أسفر عن استشهاد 29 شخصًا وجرح 63 آخرين، ما جعلها أفظع اعتداء على مسيحيي سوريا في السنوات الأخيرة. أُعيد افتتاح الكنيسة لاحقًا وسط إجراءات أمنية مشددة، بينما واصل المؤمنون حضور القداس رغم الجراح، مردّدين: «الحق وحده سينتصر».
السريان الأرثوذكس: تراث الطقس السرياني الغربي
يؤدي السريان الأرثوذكس طقوسهم في كاتدرائية القديس جرجس في باب توما، وهي كنيسة فخمة أعيد ترميمها في القرن الثامن عشر، وتتميز بزخارف فسيفسائية وأيقونات فنية. يرأس البطريركية حاليًا البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني (منذ 2015)، وتُعد الكنيسة مركزًا روحيًا ومقرًا إدارياً. رغم التهديدات، لم تتوقف الصلوات، بل رُفعت إجراءات الحماية.
السريان الكاثوليك: الطقس الغربي بطابع شرقي
كاتدرائية القديس بولس غرب باب شرقي هي قلب المجتمع السرياني الكاثوليكي. تتميز ببساطتها وروحانيتها، وقد ترأسها سابقًا المطران إلياس تابّه حتى 2021، ويقودها حاليًا الأسقف باسل أبو سمرة. غالبًا ما تغص الكنيسة بالمصلين في الأعياد، وكانت من أوائل الكنائس التي أعادت قرع الأجراس عقب اعتداء حزيران، دون أن تُسجل فيها أضرار مباشرة.

الملكيون الكاثوليك: أيقونات بيزنطية وهوية شامية
كاتدرائية سيدة النياحة قرب قلعة دارمسوق (دمشق)، هي مقر بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك، أُسست عام 1724، وتُقام فيها الصلوات باللغتين العربية واليونانية. يرأسها البطريرك يوسف العبسي منذ 2017، ولا تزال الأيقونات الذهبية وأناشيد القداس تملأ أرجاءها رغم تناقص أعداد المؤمنين.

معالم مقدسة خارج الأسوار
مصلى القديس بولس قرب باب كيسان يُخلّد لحظة هروب بولس الرسول من المدينة. بُني عام 1939 مستخدمًا حجارة من باب كيسان الأصلي، ليكون صلة بين النصوص الإنجيلية والمعمار الدمشقي.
الموارنة: حضور قديم ودور اجتماعي فاعل
كاتدرائية القديس أنطونيوس (1865) في باب شرقي هي مقر أبرشية الموارنة، ويترأسها المطران سمير ناصر، وتخدم نحو 20,000 مؤمن. من أبرز معالمهم أيضًا مصلى حنانيا، الذي يُعتقد أنه منزل أول معمد لبولس، ويقع تحت الأرض. رغم تدميره عام 1860، أُعيد بناؤه في 1867، وهو الآن موقع للتأمل والصلاة في أجواء روحية عميقة.

الأرمن: بين الأرثوذكسية والكاثوليكية
في الحي الأرمني، تبرز كنيسة سورب سركيس (الأرمن الأرثوذكس) وكنيسة ملكة الأكوان (1826، الأرمن الكاثوليك). تُقام فيهما الصلوات بالأرمنية والعربية، وتشكلان جسرًا بين التراثين الأرثوذكسي والكاثوليكي. يتبع الأرمن الكاثوليك للكرسي البطريركي في دارمسوق ضمن الإكزارخية التي أُسست عام 1984.

البروتستانت: خدمات تربوية وروحية
تضم دارمسوق كنيستين بروتستانتيتين بارزتين: الكنيسة الإنجيلية الأرمنية (1922) والكنيسة الإنجيلية الوطنية المشيخية. رغم بساطة مبانيهما، لهما أثر كبير في التعليم والخدمات الإنسانية، وتُقام فيهما الصلوات بعدة لغات، وتديران مدارس بدعم من المجلس الإنجليزي البروتستانتي.
الكاثوليك اللاتين: حضور محدود لكن حي
لا يوجد أسقف لاتيني مقيم في دارمسوق، إذ تتبع مطرانية دارمسوق لبطريركية اللاتين في أورشليم (القدس). ومع ذلك، توجد مصليات لاتينية ويزور القنصل البابوي المدينة أحيانًا. تُرسل أبرشية حلب بعض الكهنة لإقامة القداسات.
السياق التاريخي والثقافي
تحتضن دارمسوق كنائس تاريخية تعود للعصور الرسولية والبيزنطية، ككاتدرائية المريمية ومصلى حنانيا. كما أُعيد بناء العديد من الكنائس في العهد العثماني والانتداب، ما أضفى طابعًا معماريًا متنوعًا يمزج بين الطرز الأرمنية، البيزنطية، الصليبية والعثمانية.
أحداث مفصلية
2001: زيارة البابا يوحنا بولس الثاني ولقاؤه برؤساء الكنائس.
2019: زيارة البابا فرنسيس ورفضه العنف الطائفي.
2025: الهجوم على مار إلياس والرد الشعبي السريع بإعادة الصلوات.
رموز دينية ومجتمعية
من أبرز القادة الدينيين:
المطران يوحنا العاشر يازجي (الروم الأرثوذكس)
البطريرك يوسف عبسي (الملكيون الكاثوليك)
المطران سمير ناصر (السريان الموارنة)
الممثل البابوي حنا جلوف (عن بطريركية أورشليم للاتين)
في مارس 2025، وجّه البطريرك عبسي رسالة مصالحة وطنية دعا فيها إلى جعل المسيحيين “بناة جسور” لا حواجز.
الكنيسة السريانية الكاثوليكية الداخلية
الصمود والتضامن والهوية
رغم الاعتداءات، واصل المسيحيون إقامة صلواتهم بشجاعة، بدعم من الشباب المتطوعين تحت اسم “فزعة المسيحيين”. كما شدد المسلمون المحليون على أهمية التعايش، حيث قال أحدهم: «الإرهاب استهدف الجميع». وأكد القادة السياسيون والدينيون على حماية دور العبادة لكل الطوائف.
دور في الإغاثة وإعادة الإعمار
تُساهم الجمعيات المسيحية مثل “كاريتاس” و”الصليب السرياني” في دعم اللاجئين والنازحين. وتستمر الطقوس مثل مواكب الميلاد والفصح في جذب المؤمنين من كل الطوائف. ورغم سقوط النظام السابق في 2024، لا تزال المخاوف الديمغرافية تلاحق المسيحيين، إذ تفكر نسبة كبيرة منهم في الهجرة بسبب تكرار الهجمات.
تمثل كنائس دارمسوق أكثر من مجرد معابد، إنها معالم لاهوتية وصمود وشراكة روحية. وبين المآذن والقباب، يلتقي صوت الأذان مع تراتيل الكنائس ليعبّر عن أمل مشترك في السلام والعيش المشترك، في مدينة لا تزال تحتفظ ببريقها رغم العواصف.
مرحباً … أكثر من تحية
بيث نهرين — مرحباً كلمة شائعة بيننا يقولها الصغير والكبير، لكن هل تعلم حين نقول مرحباً فإن…