26/07/2025

زياد الرحباني: مايسترو لبنان وضميره الحي يرحل عن عمر ناهز التسعة والستين عامًا

بيروت — توفي زياد الرحباني، المايسترو والملحن الشهير، والصوت الصارم لضمير لبنان، يوم الخميس في بيروت، عن عمر ناهز 69 عامًا. 

ووفقًا لمصادر عائلية، فقد سببت الوفاة مضاعفات مرضية مرتبطة بالقلب. 

لم يكن زياد مجرد ابن لفيروز الملهمة وعاصي الرحباني الملحن المبدع، بل كان قوة فنية وسياسية مستقلة. شكل بصوته ومنظوره المبدع، هوية الموسيقى اللبنانية الحديثة، وأعطى صوتًا لتخليهات اللبنانيين ومفارقاتهم وكوابيسهم المنسية. 

وُلد في عائلة مسيحية (روم أرثوذكس – سريانية مارونية)، ما خلق لديه تناغمًا نادرًا بين التراث المسيحي القديم والهوية اللبنانية المتكسرة. 



هذه الخلفية الثقافية، التي يغفلها كثيرون، منحت أعماله بُعدًا مقدسًا وثقافيًا ذا طابع تمردي وتذكرة جماعية. ومن هذا المنطلق الفريد، دمج الغضب والسخرية في موسيقاه ومسرحياته، ولم يتورع عن مواجهة داء الطائفية برؤية آسرة. 

عندما كان في السابعة عشرة، كتب أول عمل مسرحي بعنوان «سهرية»، تلاه سلسلة من المسرحيات الثورية التي دمجت البعد الشخصي بالسياسي. وفي تعاوناته مع والدته في أواخر السبعينيات والثمانينيات —في أعمال مثل «ماي السلحفاة»، «بترا»، و«مش كاين هيك تكون» أعاد رسم حدود المسرح الموسيقي اللبناني. 

لكن لوحات السخرية الحقيقية كانت من صنعه فقط: «فيلم أميركي طويل»، «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، «بالنسبة لبُكرا شو؟». من خلالها، حول بيروت أثناء الحرب إلى مسرحٍ يتبادل فيه سائقي التاكسي والنُدُل والفلاسفة الألم والضحك والنقد السياسي الحاد. 

كان يساريًا ملتزمًا وناقدًا بلا هوادة للطائفية والفساد. لم يلتفت لأي سلطة دينية أو سياسية، حتى تلك التي تنتمي إليها طائفته. نقده شامل وغير منحاز، كان بمثابة مدماك اجتماعي ساهم في رفع مستوى الخطاب العام. 

موسيقياً، أحدث ثورة من نوع خاص. مزج الجاز والفانك والمقامات العربية والموسيقى الشعبية اللبنانية، فأطلق صوتًا لبنانيًا جديدًا منفتحًا على العالم. ترتيباته الموسيقية، المستوحاة بشدة من عمالقة الجاز مثل ثيلونيوس مونك وجون كولترين، نسجت في نسيج روح بيروت الحزينة. أغانيه مثل «أنا مش كافر»، «أمي الحلوة»، و«بخصوص لبُكرى شو؟» لا تزال ترن في ذاكرة المقاومة الثقافية في العالم العربي. 



أثار رحيله موجة واسعة من الحزن والتأمل عبر المشهد السياسي والثقافي في لبنان. أعلن الرئيس السرياني الماروني اللبناني، جوزيف عون، أن الرحباني مثّل “حالة فكرية وثقافية متكاملة”. وفي بيانه، قال: 

 «زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان. بل كان ضميرًا حيًا وصوتًا متمرّدًا على الظلم. مرآةً صادقة للمهمّشين والمعذبين. من خلال مسرح هادف وموسيقاه التي تمتزج فيها الكلاسيك، الجاز والموسيقى الشرقية، قدم رؤية فنية فريدة وفتح نوافذ جديدة في التعبير الثقافي اللبناني، بلغ بها العالمية. وبالأخص كونه ابن الفنانين المبدعين عاصي فيروز، فنتقدّم لخالص التعازي لهم في هذا المصاب الجلل.» 

أضاف: 

«أعماله ستبقى حيّة في ذاكرة اللبنانيين والعرب، تلهم الأجيال القادمة، وتذكّرهم بأن الفن مقاومة، وأن الكلمة بمقدورها أن تكون موقفًا. فليترقد الشاعر والمفكر بسلام، ولن تبرد موسيقاه ومسرحياته النابضة بالحياة، نبراسًا للحرية ونداءً للكرامة الإنسانية.» 

في تغريدة على منصة “إكس”، وصف رئيس الحكومة نواف سلام الرحباني بأنه “صوت قوي للعدالة والكرامة.” كما ذكر: 

«زياد كان فنانًا حرًا وصوتًا مبدعًا، ظلّ وفيًّا لقيم العدالة والكرامة… على المسرح، من خلال الموسيقى والكلمة، قال ما لم يجرؤ كثيرون على قوله. لعقود، لمس آلام وآمال اللبنانيين.» 

وأضاف سلام: 



«بصدق ناري، زرع وعيًا جديدًا في ضمير ثقافتنا الوطنية.» 

وتقدّم بأصدق التعازي لعائلته ولـ”كل اللبنانيين الذين رأوا فيه صوتهم.” 

صوت لبنان الضائع 

كان رحباني، قبل كل شيء، صوتًا لمن لا صوت لهم. قال ما يهمس به الآخرون بصمت. انتماؤه السرياني الماروني، المغروس في تقاليد لطالما سبقت الدولة الحديثة، منح رؤيته وضوحًا وجذرًا للغد. اختراقه الموسيقي لم يكن طرازًا بل فلسفة: دمج الجاز، الفانك والتراث ليس فقط للتجديد، بل لصوغ هوية متناقضة كلبنان… المسرحيات التي تبنّاها، بل نزاله المسرحي هي دفاع عن الكرامة الإنسانية. 

المسرح والاستوديو—كانا ميدانًا للمعارك ضد الميليشيات والطائفية. كان يساريًا صريحًا ومثيرًا للوجدان، تحدّى الانقسامات التقليدية. ترك وراءه أعمالًا ضمن الثقافة العربية المؤسسة للعقل المقاومة، من تونس إلى بغداد. 

وعلى الرغم من تواريه عن الأضواء في السنوات الأخيرة، لم يتراجع تأثيره. افتقده العالم العربي كله، لما مثّله من صوتٍ فكري خارق. 

في كلمات أحد الشعراء اللبنانيين: 

«زياد لم يعزف موسيقى فقط، بل عزف وجعنا… وعلّمنا كيف نضحك رغم كل شيء.» 

رحل تاركًا خلفه ابنًا، وآلاف وملايين ممن وجدوا في فنه ملاذًا وضوءًا وسط ظلام الألم. 



‫شاهد أيضًا‬

كشافة الجمعية الثقافية السريانية في رحلة استكشافية تجمع بين التعلم والمرح

زالين (القامشلي)، شمال شرق سوريا – نظّمت الجمعية الثقافية السريانية في سوريا، رحلة كشفية م…