دور السريان في بيت الحكمة ببغداد
بغداد ─ يُعد بيت الحكمة في بغداد من أبرز المؤسسات العلمية في التاريخ الإسلامي، بل ومنارة الحضارة الإنسانية جمعاء. تأسس في العصر العباسي، في عهد الخليفة المأمون في أوائل القرن التاسع الميلادي، كمركز فكري وعلمي وثقافي، ضم مكتبة ضخمة، ودوائر للترجمة، ومراكز للبحث والتعليم. وكان هذا الصرح من أبرز رموز العصر الذهبي للعلم في الإسلام.
إلا أن الجانب الذي لا يحظى غالبًا بما يستحقه من اهتمام، هو دور السريان (الكلدان-الآشوريين-الآراميين) في تأسيس هذا البيت العلمي وازدهاره. فقد كان للسريان _ وهم أبناء حضارة آرامية قديمة وناقلو العلم بين الشرق والغرب _ دور محوري في الترجمة والبحث والنقل الحضاري، الذي قامت عليه النهضة العباسية.
من هم السريان؟
السريان، هم شعب ينتمي إلى التراث الآرامي، ويتحدثون اللغة السريانية، وهي إحدى اللغات السامية. يعتنق السريان الديانة المسيحية، وقد لعبوا دورًا مهمًا في الحياة الثقافية والعلمية في منطقة بيث نهرين، خاصة في العراق وسوريا. وقد أسسوا مدارس ومراكز علمية، مثل مدرستي أورهوي (الرها) ونصيبين، وكان لهم باع طويل في الطب والفلسفة والعلوم.
الترجمة السريانية: بوابة العلوم إلى العربية
أحد أهم أدوار السريان في بيت الحكمة كان دورهم في الترجمة، فقد عمل عدد كبير من العلماء السريان على نقل المعارف الإغريقية من اليونانية إلى السريانية، ثم من السريانية إلى العربية، وهو ما سمح بانتقال إرث أرسطو وأفلاطون وجالينوس وبطليموس، إلى الثقافة الإسلامية.
اقرأ أيضاً: جامعة جنديشابور: منارة المعرفة المنسية في التاريخ الإنساني
من أبرز المترجمين السريان الذين عملوا في بيت الحكمة، كان حُنَين بن إسحاق، وهو طبيب سرياني ومترجم كبير عاش في القرن التاسع الميلادي، قام بترجمة مئات الكتب الطبية والفلسفية، وكان يحرص على مراجعة النصوص وضبطها بأسلوب علمي، كما أسهم ابنه إسحاق بن حنين في تطوير هذا التراث، ونقل نصوصًا كثيرة إلى العربية.
كما اشتهر ثابت بن قرة، وهو عالم رياضيات وفلك سرياني، بترجماته وابتكاراته، حيث ترجم كتبًا في الهندسة والفلك، وأسهم في تطوير المفاهيم الرياضية التي استخدمها العلماء المسلمون لاحقًا.
بيت الحكمة والسريان: علاقة استراتيجية
لم يكن استقطاب السريان إلى بيت الحكمة أمرًا عابرًا، بل جاء نتيجة وعي الدولة العباسية بأهمية الاستفادة من العلماء السريان في الترجمة والتعليم، فقد كان السريان يتقنون اللغات الثلاث الأساسية للمعرفة آنذاك: اليونانية، والسريانية، والعربية، وهذا ما جعلهم حلقة وصل طبيعية في عملية النقل الحضاري.
بالإضافة إلى ذلك، فقد تميز السريان بالخبرة الطبية، حتى أصبح العديد منهم أطباء القصر العباسي، كما أن التقاليد العلمية المتوارثة في كنائسهم ومدارسهم جعلتهم من بين أكثر المجتمعات انفتاحًا على الفكر الفلسفي والعلمي القديم.
أثر مساهمة السريان في النهضة الإسلامية
أسهم السريان بشكل مباشر في بناء القاعدة العلمية التي استند إليها الفكر العربي والإسلامي، لم تكن إسهاماتهم مجرد نقل حرفي للنصوص، بل كانوا يضيفون الشروح والتفسيرات والحوارات الفلسفية، التي ساعدت على نشوء تيارات عقلانية في الفكر الإسلامي، أبرزها مدرسة المعتزلة.
وقد مكّن هذا الجهد العلمي العالم الإسلامي، من أن يصبح وريثًا للحضارات القديمة، وأتاح له فيما بعد التأثير في أوروبا عبر الأندلس وصقلية.
وهكذا يمكن القول، إن السريان كانوا من أوائل من مهدوا الطريق نحو النهضة الأوروبية، عبر مساهماتهم في بيت الحكمة.
الخاتمة
إن دور السريان في بيت الحكمة ببغداد، لا يمكن اختزاله في مجرد صفحة من التاريخ، بل هو جزء أصيل من قصة التقدم البشري، فقد مثّلوا همزة وصل بين الحضارات، وقدموا نموذجًا للتعايش والتعاون بين الأديان والثقافات في سبيل العلم والمعرفة، واليوم، في ظل التحديات التي تواجه المجتمعات العربية، تبقى تجربة بيت الحكمة ودور السريان فيها نموذجًا ملهمًا لما يمكن أن تحققه الأمم، حين تضع العقل والبحث فوق التعصب والانغلاق.
إيشوع كورية، ممثل مجلس بيث نهرين القومي: الشعب السرياني يطالب بمكانه في سوريا الجديدة، ومهما كان مستقبل سوريا، نريد أن نكون جزءًا منه
تحدّث إيشوع كورية، عضو الهيئة التنفيذية لمجلس بيث نهرين القومي، بإسهاب في مقابلة مطولة عبر…