‫‫‫‏‫يومين مضت‬

الموسيقى السريانية الكنسية: تراث سماوي يتردد عبر القرون

بيث نهرين في كتابه “السريان: قديماً وحديثاً”، تطرق الكاتب السرياني السوري، سمير عبده، لدراسة الأصول التاريخية للسريان والكنيسة ومؤثراتها في الحضارة العربية الإسلامية، كما تحدث عن جوانب عدة من السريان وتراثهم، كالموسيقى وأصولها وتطورها ضمن الكنيسة والبيت كاز. 

منذ العصور القديمة، لم تكن الموسيقى السريانية مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت لغة روحية عميقة، تُعبّر عن الصراع الكوني بين الآلهة، وتُصور الحياة والموت، وتستحضر القوى الخفية للطبيعة، وقد لعبت دورًا جوهريًا في الطقوس الوثنية ما قبل المسيحية، وكانت الأداة الأقوى لسرد معاني النصوص الطقسية والتعبير عن معتقدات الشعوب في بيث نهرين وسوريا القديمة. 

ومع ظهور المسيحية، لم تُلغَ هذه الوظيفة التعبيرية والدرامية للموسيقى، بل تم توظيفها مجددًا لخدمة الطقوس الجديدة، التي باتت تروي حياة السيد المسيح ومعاناته وموته وقيامته، وصراعه مع الشر، وهكذا، تطورت الموسيقى السريانية ضمن الكنيسة، محافظة على جوهرها التعبيري، ولكن بصيغة أكثر بساطة وشفافية. 

من القداس إلى الكورال 

في البداية، كانتالجوقةتعني مشاركة جماعية من قبل المصلين في تراتيل القداس، لكن هذه المشاركة تطورت تدريجيًا، حتى تحولت إلى فرق كورال شبه محترفة، تعكس مدى تطور الحس الموسيقي والتعبدي لدى السريان، وقد كان للموسيقى الكنسية دور كبير في إلهام عمالقة الموسيقى الكلاسيكية في أوروبا، مثل موزارت وهايدن، الذين استقوا من الطقوس الكنسية العديد من أفكارهم الموسيقية.

مار أفرام وأصوات السماء 

يُعتبر مار أفرام السرياني من أوائل من نظموا التراتيل الكنسية بالسريانية، وهو الذي لُقب بـقيثارة الروح القدس“، وقد تبعه عدد من القديسين عند السريان واليونان، مثل غريغوريوس النزنيزي وفقورلس الأورشيلي وقاياونيس ذهبي الفم، ومار اسحق، ومار رابولا، ومار بالاي وجماعة الفخارين، ومار يعقوب السروجي وسيويريوس الأنطاكي اليوناني ويعقوب الرهاوي وغيرهم ممن ساهموا في تطوير هذا الفن الروحي، فصاغوا ألحانًا خالدة لا تزال تتردد في الكنائس حتى اليوم.



تراث سماعي حي 

ما يميز الموسيقى السريانية الكنسية، هو أنها تراث حي لم ينقطع، فالألحان لم تُكتب في البداية، بل تناقلتها الأجيال عبر السمع في الكنائس والجماعات المصلية، وما زالت تُرتّل في الكنائس السريانية الشرقية حتى اليوم، حيث تُبعث الألحان من حناجر المصلين مع كل صلاة وابتهال. 

كل نغمة من نغمات الموسيقى السريانية، تفترض ضمناً صوتاً من الطبقة الدنيا (الباصيكون هو الأساس الهارموني الخفي، وذلك رغم الطبيعة الأحادية للموسيقى الشرقية _ أي أنها تعتمد على لحن واحد (مونوفوني)_ ولا تقبل التوافق (الهارموني) 

مدارس حفظت الروح 

بقيت بعض المدارس الدينية السريانية حافظة لهذا التراث الموسيقي الغني، مثل مدرسة دير الزعفران، ومدرسة طور عبدين (دير مار كبرئيلومدرسة أورهوي (الرهاالتي استمرت في تقديم الطقوس الكنسية بالألحان السريانية حتى سبعينيات القرن الماضي.

بيت كاز: مخزن الألحان الروحية 

جمع السريان تراتيلهم وابتهالاتهم في كتاب ضخم سُميبيت كاز“، أيمخزن الألحان“، ويتضمن هذا الكتاب كنزًا من التراتيل والأنغام، من بينهاالمداريش” (الأناشيد الأفراميةوالتخشفتات” (الابتهالاتوالموربات” (التعاظيموالمبعرنات” (تراتيل الموتىوالشوباحات” (التسابيح) وغيرها الكثير. 



أسلوبان موسيقيان متكاملان 

تنقسم الألحان السريانية الكنسية إلى أسلوبين موسيقيين: 

الأسلوب الأول: تقليدي، يُستخدم في المزامير بتلاوة قِرائية وتنغيم بسيط. 

الأسلوب الثاني: أكثر حداثة، يستند إلى الألحان الشعبية وإبداعات الآباء الموسيقيين. 

والمزامير شكلت مادة أساسية في الألحان السريانية، لكن سرعان ما ظهرت نصوص جديدة مستلهمة من حياة المسيح، لتُولد ألحانٌ مختلفة تعكس تجارب روحية متجددة. 

صوت فيروز… صدى للتراتيل القديمة 

ومن النماذج البارزة في العصر الحديث لاستخدام الموسيقى السريانية الكنسية، ما قدمته الفنانة السريانية المارونية الكبيرة، فيروز، خصوصًا خلال أعمالها المرتبطة بأسبوع الآلام (أسبوع آلام السيد المسيح حتى الصلب والذي يسبق القيامةحيث لامس صوتها أعماق التراث الروحي السرياني، وأعاد إحياءه بشكل فني معاصر. 

ختامًا، فإن الموسيقى السريانية الكنسية ليست مجرد تراث فني، بل هي هوية دينية وثقافية تتوارثها الأجيال، تتجلى فيها الأصالة والتجدد، وتربط الأرض بالسماء بصوت واحد، ينبض بالإيمان والجمال. 


‫شاهد أيضًا‬

المفوضية العليا للانتخابات تستبعد مرشحين كلدان-سريان-آشوريين وتثير جدلاً حول تمثيل الأقليات في العراق

بغداد – في خطوة غير مسبوقة، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، استبعاد ع…