مؤتمر الحسكة… منبر للحوار أم ساحة صراع على الشرعية؟
بقلم: بسام إسحاق | رئيس المجلس الوطني السرياني في سوريا، وعضو الهيئة الرئاسية لمجلس سوريا الديمقراطية – ممثل المجلس في العاصمة الأميركية واشنطن
أثار مؤتمر “وحدة الصف” الذي عُقد أمس في الحسكة عاصفة من النقد الحاد من قبل سلطة دمشق ومؤيديها. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا؟ فالإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية نظّما خلال السنوات الماضية عشرات، بل مئات المؤتمرات التي تمحورت حول الحوار السوري–السوري، وشارك فيها ممثلون عن مختلف مناطق البلاد ومكوّناتها، دون أن تثير ردود فعل بهذا القدر من الحدّة والانفعال. فما الذي تغيّر هذه المرة وجعل الحسكة تتحول إلى بؤرة توتر سياسي بهذا الشكل؟
ما الذي تغيّر هذه المرة؟
أولًا، جاء مؤتمر الحسكة في سياق حساس للغاية، بعد توقيع اتفاق 10 آذار 2025 بين دمشق و”قسد”، وهو اتفاق يرسم خريطة طريق لدمج القوات وتوحيد الخطاب السياسي. من منظور دمشق، أي تحرك أحادي في هذه المرحلة، خصوصًا إذا حمل رسائل عن شكل النظام السياسي المستقبلي مثل الدعوة الصريحة إلى اللامركزية، يُعد خرقًا سياسيًا يضعف الاتفاق.
ثانيًا، طبيعة الحضور والرسائل كانت مختلفة عن المؤتمرات السابقة؛ إذ جمع المؤتمر شخصيات سياسية ودينية من مكوّنات متعددة بينها العلويون والدروز والمسيحيون — وهي مكوّنات تحاول دمشق احتكار تمثيلها — وخرج ببيان صريح يدعو إلى دستور جديد ونظام لامركزي، وهي رسائل تراها دمشق تهديدًا مباشرًا لرؤيتها المركزية للدولة.
ثالثًا، بدت مخرجات المؤتمر وكأنها محاولة لتأسيس مرجعية سياسية بديلة أو موازية للمفاوضات الرسمية، ما يمنح الإدارة الذاتية منصة تفاوضية خارج سيطرة العاصمة، ويفتح المجال أمام اعتراف دولي أو إعلامي بهذا الإطار باعتباره “صوتًا جامعًا لمكوّنات سوريا“.
ما جرى في الحسكة لا يمكن فصله عن المشهد السياسي السوري الراهن، ولا عن شبكة المصالح الإقليمية والدولية التي تتقاطع فوقه. فالمؤتمر لم يكن مجرد فعالية خطابية كما في السابق، بل جاء في لحظة مفصلية أعقبت توقيع اتفاق 10 آذار، وأنتج خطابًا سياسيًا مختلفًا. ومع دخول تركيا على خط الوساطة مع دمشق، تحوّل المؤتمر من حدث محلي إلى ورقة إقليمية، استُخدمت لتشديد الضغط على القوى السياسية والعسكرية في شمال وشرق سوريا، وقطع الطريق أمام أي مسار تفاوضي برعاية خارجية. لذلك، لم يكن رد فعل السلطة انفعالًا عابرًا، بل خطوة مدروسة تهدف إلى وأد أي محاولة لبناء مرجعية سياسية موازية، وتثبيت قاعدة جديدة: الحوار يتم في دمشق وبشروطها، أو لا يكون.
هذا التصعيد يضع مسار التفاوض أمام مرحلة جديدة من الاختبارات السياسية. فالإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية، اللذان أثبتا قدرة عالية على تنظيم الصفوف وحشد الدعم الشعبي والسياسي، أمامهما الآن استحقاقات تتطلب تعزيز الانفتاح على جميع المسارات: من خلال التمسك بمبادئ اللامركزية والانخراط في حوار جاد مع دمشق، إلى جانب توسيع شبكة الاتصالات الإقليمية والدولية لضمان حضور فاعل في أي تسوية مقبلة.
غير أن أي حديث عن تفاهمات سورية–سورية حقيقية يظل ناقصًا إذا لم يُطرح سؤال جوهري: إلى أي مدى تملك دمشق حرية القرار في هذا الملف؟ فالمسار الحالي يظهر أن حسابات الشمال والشرق السوري ما زالت تتحرك داخل هوامش رسمتها أنقرة، سواء عبر ضغطها السياسي المباشر أو من خلال المعادلات الأمنية التي فرضتها على الأرض. فتركيا، التي ترى في أي صيغة لامركزية تهديدًا لأمنها القومي، ترفض شرعنة الإدارة الذاتية أو مؤسساتها، وهو ما يجعل سقف المفاوضات السورية مقيدًا إلى حدٍّ كبير بالإملاءات التركية. وبالتالي، فإن الوصول إلى صيغة شراكة متوازنة بين دمشق و”قسد” يتطلب من العاصمة أن تحرر، ولو جزئيًا، قرارها السياسي من القيود التركية، وأن تصوغ عروضًا للحوار تنطلق من أولويات السوريين واحتياجاتهم، لا من معايير القبول أو الرفض في أنقرة.
ومن منظور أوسع، فإن ما جرى في الحسكة وما تبعه من ردود فعل، يسلّط الضوء على مفصل حاسم ينبغي أن يدركه المجتمع الدولي: أن استقرار سوريا، ومنعها من العودة إلى مربع الاستبداد أو التفكك، لن يتحقق إلا عبر صيغة حكم لامركزية حقيقية. فاللامركزية ليست مشروع تقسيم، بل هي ضمانة لوحدة الدولة عبر توزيع السلطة وحماية الهويات المتنوعة من الإقصاء. إنها الإطار الذي يوفّر بيئة سياسية تسمح بمشاركة جميع المكوّنات في إدارة شؤونها، ويغلق الباب أمام عودة التوترات التي تشعلها مشاريع الهيمنة أحادية الهوية. وبالنسبة لأي طرف يسعى إلى شرق أوسط مستقر، فإن دعم هذا المسار لا يحمي حقوق السوريين فحسب، بل يسهم أيضًا في تعزيز الأمن الإقليمي، ويفتح المجال أمام شراكات قائمة على الثقة مع قوى محلية موثوقة قادرة على التعاون في مواجهة الإرهاب والتطرف، بعيدًا عن الابتزاز السياسي الذي تمارسه أنظمة مركزية استبدادية.
في المحصلة، ما جرى في الحسكة كشف حساسية التوازنات الراهنة بين القوى الفاعلة، وأكد أن أي محاولة لتوسيع إطار التمثيل السياسي أو إعادة تعريف شكل الدولة ستُواجَه برد مركزي صارم، خاصة إذا جاءت في توقيت حساس وسط تنافس إقليمي ودولي محتدم. دمشق ترى أن معركة الشرعية تُخاض باحتكار المنابر وصياغة السردية السياسية من موقع القوة، وتركيا تدرك أن كل خطوة تُبعد شمال وشرق سوريا عن طاولة أي مفاوضات خارجية تقرّبها من دائرة النفوذ التركي–الروسي، فيما يقف العالم أمام اختبار قدرته على دعم شراكة سياسية حقيقية تحفظ وحدة البلاد وتضمن حقوق جميع مكوّناتها. أما إذا استمر النهج التصادمي، فإن مؤتمر الحسكة قد يتحول من فرصة لتوحيد الصف إلى الحدث الذي بلور الانقسام السياسي بين رؤيتين لمستقبل سوريا
تنويه: الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب, و لا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية لموقع SyriacPress أو موقفه اتجاه أي من الأفكار المطروحة.
من جبل العرب إلى أورشليم (القدس).. تضامن روحي يتخطى الحدود من أجل السويداء
السويداء – في قداس السبت الأخير، ألقى نيافة المطران أنطونيوس سعد، مطران أبرشية بصرى وحوران…