‫‫‫‏‫يومين مضت‬

دير مار متى.. ملاذ خالد للإيمان والتاريخ والصمود

الموصل، العراق — يقع دير مار متى على بعد 35 كيلومترًا شمال شرقي الموصل في العراق، ويُعد رمزًا خالدًا للإيمان والتراث التاريخي. يتربع الدير على جبل الفاف بارتفاع 2100 قدم (640 متر)، وهو من أقدم الأديرة السريانية الأرثوذكسية، التي أسسها القديس مار متى في القرن الرابع.

بفضل موقعه الخلاب وسط جمال شمال العراق الوعر، ومناخه الهادئ وإطلالاته الساحرة، يُعد الدير وجهة مميزة للحجاج والمؤرخين والسياح، ككنز أثري وملاذ ديني ومنارة ثقافية، يجسد دير مار متى صمود التراث المسيحي في العراق.

أسس القديس مار متى _ الناسك السرياني المعروف بتقواه _ الدير الذي أصبح مركزًا روحيًا، يجذب آلاف الرهبان من نينوى وأنحاء العراق. في ذروته، استضاف الدير ما يصل إلى 7000 راهب، دليلًا على مكانته خلال عصوره الذهبية. ورغم قرون من الغزوات والحرائق والنهب، احتفظ الدير بعناصره المقدسة، بما في ذلك المذبح وبيت القديسين (جزء من الكنيسة الرئيسية)، وقلاية مار متى، والصهاريج، والكهوف، والصوامع. دمر حريق هائل عام 480 م الكثير من روعته الأصلية، محطمًا النقوش والزخارف، لكن بحلول عام 544، استعاد الرهبان الدير وأحيوا تقاليده النسكية. واجه الدير تحديات أخرى، بما في ذلك الهجر عام 1171 بسبب هجمات الجماعات المجاورة وغارات المغول والتتر بعد عام 1260. في كل مرة، نهض الدير من المحن، مع تجديدات كبيرة في السبعينيات جلبت الكهرباء وطريقًا معبدًا، ليصبح وجهة حج وسياحة حديثة.

تستند شهرة دير مار متى إلى ثلاث ركائز: الروحية، والكنسية، والعلمية. روحيًا، لعب القديس مار متى وخلفاؤه دورًا محوريًا في نشر المسيحية في المنطقة. وتعمّد على أيديهم شخصيات بارزة مثل مار بهنام وأخته سارة ووالديهما سنحريب وزوجته، والعديد من سكان ولاية آثور. يجذب الدير، بفضل قداسته ورفات القديس مار متى وغيره من القديسين، الحجاج الساعين للشفاء والبركة والتجديد الروحي. لا تزال سمعته كموقع مقدس مستمرة، حيث يتوافد الزوار لتكريم رفاته المقدسة وسماع كلمة الله في قاعاته الهادئة.

كنسيًا، ارتقت مكانة الدير ككرسي أسقفي في أواخر القرن الخامس، ثم أصبح كرسيًا مطرانيًا، يتمتع بنفوذ كبير في كنيسة المشرق. كان مطرانه يحتل مكانة مرموقة، موجهًا مسار الكنيسة. استضاف الدير شخصيات بارزة مثل العلامة ابن العبري، الذي عاش فيه 7 سنوات في القرن الثالث عشر، كما استضاف عدة مجامع كنسية هامة، وخرج منه 3 بطاركة و7 مفارنة والعديد من المطارنة، مما عزز دوره كحجر زاوية في المسيحية السريانية.

علميًا، كان الدير منارة للإنجاز الفكري، واحتوت مكتبته في القرن الخامس، إحدى أفضل خزائن المخطوطات السريانية، كنوزًا مثل الإنجيل السرياني للراهب مبارك البرطلي، المزين بـ 54 صورة ملونة. تُحفظ العديد من هذه المخطوطات اليوم في مؤسسات مرموقة مثل المتحف البريطاني، كامبريدج، برلين، الفاتيكان، ودير الشرفة في لبنان. ساهمت مدرسة الدير في تخريج أعلام مثل مار ماروثا التكريتي وابن العبري، الذين تركوا أثراً في المشهد الفكري خلال العصر العباسي، عن طريق ترجمة المعرفة وحفظها، رابطين بين التقاليد الشرقية والغربية.

اليوم، يظل دير مار متى شاهدًا حيًا على الصمود. يمكن الوصول إليه عبر طريق مُعَبَّدٍ حديثًا أو مسارات حجرية تقليدية تتعرج بين المرتفعات، ويضم مجمعًا من 3 طوابق يحتوي على حوالي 100 غرفة، بما في ذلك كنيستان مكرستان للقديس مار متى والسيدة العذراء. يعكس اسم “الطبكي”، المشتق من السريانية بمعنى “المرتقى”، مكانة الدير المرتفعة جسديًا وروحيًا. رغم التحديات في تاريخ العراق الحديث، بما في ذلك التهديدات من النزاعات، ويواصل الدير استقطاب زوار من جميع أنحاء العالم. مزيجه من العمق الروحي، والثراء التاريخي، والجمال الطبيعي، يجعله جوهرة ثقافية، تدعو لاستكشاف قاعاته المقدسة والتأمل في إرثه الدائم.

‫شاهد أيضًا‬

الإيزيديون يرفضون قرار الحكومة العراقية: “النازح لا يُلغى بقرار سياسي”

بغداد – فجّر قرار وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، بعدم احتساب الإيزيديين الذين ما زالوا ف…