‫‫‫‏‫5 ساعات مضت‬

مدرسة أورهوي (الرُها): حين أنارت السريانية وجه الشرق

أورهوي (الرها)، بيث نهرين ─ في زمنٍ كان فيه الظلام يخيّم على العقول، وكانت الإمبراطوريات تتصارع على الأرض، وتهتز الممالك على وقع السيوف، ولدت في مدينة صغيرة من مدن بيث نهرين شعلةٌ خجولة، لا ترفع سلاحًا ولا تطلق نارًا، بل حملت الحبر والقصبة والصفحة، وقررت أن تقاوم الجهل بالنور. هذه الشُعلة عُرفت لاحقًا باسم مدرسة أورهوي (الرُها)، والتي يُرجَّح أنها تأسست في أوائل القرن الثالث للميلاد.  

مدينة أورهوي (الرُها) – التي عرفها البعض باسم “أورفا” – لم تكن سوى مدينة هادئة على هامش الإمبراطوريات، تعيش على تخوم الفرس والروم، وتتنفّس عبر أنهارها القديمة ما تبقى من حضارات آشور وسومر وبابل. لم يتوقع أحدٌ أن تصبح هذه المدينة الصغيرة يومًا مركزًا للعلم والفكر يُقصد إليه طلاب الحكمة من كل أرجاء الشرق. 

كانت البدايات متواضعة، في أزقة كنيسة قديمة، حيث اجتمع الكاهن بالتلميذ، وتراكمت القصاصات الصغيرة التي تحتوي على تفاسير الأناجيل، وشرائع الإيمان، وأسرار الطب، وحكم الفلسفة. لم يكن هناك نظام تعليمي واضح، لكن كان هناك شغف، وكان هناك حلم بأن يصبح الإيمان أداةً للفهم، لا سجنًا للعقل. 

ثم جاء أفرام، ذلك الراهب الشاعر، الذي تشهد له الجبال والوديان بدموعه وترانيمه. حمل أفرام معه نارًا لم تكن تُرى، لكنها كانت تحرق الجهل وتحيل الأرواح إلى نور. دخل أورهوي (الرُها) بعد أن سقطت نصيبين، فحمل معه حكمة مدينته القديمة، وصاغ منها قلبًا نابضًا في أورهوي (الرُها). جمع التلاميذ، وغرس فيهم حبّ الحقيقة، دون خوفٍ من الفلسفة أو هروبٍ من المنطق، بل أراد لهم أن يروا الله من خلال العقل، كما يرونه في الصلاة.



في فناء المدرسة، كان الشعر يُلقى كما يُلقى الخبز، وكانت الفلسفة تُناقش كما تُناقش الأمور اليومية. وُلدت الترانيم كما تُولد الزهور في الربيع، وامتلأت الأروقة بأحاديث تدور عن الروح والجسد، عن الخلق والخلود، عن المرض والعلاج، عن الإنسان والله. 

وسرعان ما ذاع صيت المدرسة، وجاءها طلاب من أعالي الفرات، ومن سهول العراق، ومن جبال أرمينيا، وحتى من مدن بيزنطة، كانوا يأتون لا ليتلقوا تعليمًا دينيًا فقط، بل ليغرفوا من بحر الحكمة السريانية الذي صنعته المدرسة من كل قطرة علمٍ وصلتها. 

لكن المجد لا يُعجب السلطان دائمًا، فمع تصاعد الخلافات اللاهوتية، وتوتر العلاقة بين تيارات الكنيسة، أصبحت مدرسة أورهوي (الرُها) هدفًا للاتهام، ثم للنفي، ثم للإغلاق، وفي عام 489 م، صدر الأمر: “أغلقوا المدرسة 

 

لكن كيف يُغلق النور؟ وكيف يُطفأ فكرٌ تشربته الأرواح؟ رحل الأساتذة، وسار التلاميذ على طرق المنفى، لكنهم لم يحملوا معهم الحزن، بل حملوا الكتب والقصائد والمخطوطات. ومن أورهوي (الرُها) خرجت البذور، لتُزرع في نصيبين، ثم في جبل قنديس، ثم في قلب بغداد لاحقًا. 

تحولت مدرسة أورهوي (الرُها) إلى أسطورة حيّة، لا تُروى فقط، بل تُحيا. ففي كل مدرسة لاحقة في الشرق المسيحي، في كل صفحة مترجمة من اليونانية إلى السريانية، ثم إلى العربية، كانت هناك روح أورهوي (الرُها) تهمس في أذن القارئ:كن حُرًا، وفتّش، وامنح لعقلك الحق بأن يُحب الله بطريقته 

لم تكن مدرسة أورهوي (الرُها) جدرانًا ولا صفوفًا، بل كانت رؤية، أن يتصالح الإيمان مع العقل، وأن يُصبح الشرق موطنًا للفكر، كما هو موطنٌ للوحي. 

واليوم، رغم أن آثار المدرسة لا تُرى بالعين، إلا أن صداها لا يزال حيًا في كل من اختار طريق المعرفة وسط ظلمة التبعية، وكل من آمن أن الكلمة كانت في البدء، وستظل في النهاية، النور الذي لا يُطفأ. 


هذا المقال ضمن سلسلة: 

الجذور السريانية لمدينة أورهوي (الرها) 

جامعة نصيبين 

جامعة جنديشابور 

قننشري 

 

‫شاهد أيضًا‬

الموسيقى السريانية الكنسية: تراث سماوي يتردد عبر القرون

بيث نهرين – في كتابه “السريان: قديماً وحديثاً”، تطرق الكاتب السرياني السوري، س…